لماذا نتخلى عن الحقيقة بعد أن نكتشفها

الفن يسمح لنا بالكشف عن الحقائق دون عنف أو جراح.
الجمعة 2021/10/22
اُنشر الحقيقة بصوت عال ولا تخف (لوحة للفنان عدنان معيتيق)

الحقيقة صنو لمثل أعلى، فهي أحد الواجبات الأخلاقية الأساسية، وفرض اجتماعي، وغاية العمل القضائي أيضا، أي أن الحقيقة شبيهة بالواجب، فكيف يمكن أن نتركها؟ وهل يحقّ لنا أن نسكت عن الحقيقة، فنعمد إلى الكذب؟ وإذا قبلنا السكوت عنها، ألا يعني ذلك أننا تخلينا أيضا عن البحث عنها؟

الحقيقة هي فرض اجتماعي، ولا يتم استقرار المجتمع إلا بإعلاء شأنها ومنع الكذب والباطل، ذلك أن المجتمع هو فضاء للتبادل والتفاهم، ولا بدّ أن يتحلى أفراده بالصدق والأمانة حتى تتم تلك المبادلات على أحسن وجه، إذ لا يمكن العيش في مجتمع تكون فيه الأقوال والأفعال محل شكّ، وهذا ما أوضحه نيتشه في “كتاب الفيلسوف”.

بيد أن الحقيقة ليست حكرا على المجال الاجتماعي، فهي واجب أخلاقي أيضا، ووجه من أوجه كرامة الإنسان ونبل محتده، أي ذلك الذي يقدر على الظهور بمظهر طبعه العقلاني، لا يفكّر في مصلحته الخاصة وحدها، وإنما في ما ينزّهه عن الشبهة، لكي يكون جديرا بإنسانيته. ما يعني أن الحقيقة واجب أخلاقي مطلق، لا غنى عنه في شتى الظروف، لأن القانون الأخلاقي كما بيّن إيمانويل كانْت يمنعنا من التخلي عن الحقيقة منعا باتّا.

العواقب الوخيمة للحقيقة، ليست هي نفسها الحقيقة، فقد تكون العواقب مضرة، ولكن الحقيقة في حدّ ذاتها محايدة

ولا تخص الحقيقة المجال الأخلاقي وحده، بل تمتد إلى المجال العلمي أيضا حيث يجدّ العالم في البحث عن الحقيقة، فيتكتّم عليها إن شاء، ولكنه لا يمكن أن يتخلى عن البحث عنها، لما فيه خير البشرية.

ولكن يحدث أن يتخلى المرء عن الحقيقة لكونها باهظة الثمن، قد تعرّض صاحبها إلى ما تأباه نفسه. ولذلك غالبا من تلجأ حاشية الحاكم، وحتى بطانته، إلى الكذب أو تزوير الحقيقة، إما إرضاء لغروره، أو خوفا من عقابه، كما بيّن باسكال في “الأفكار”، أو أفلاطون في استعارة الكهف، لأن من يعلم بالحقيقة عارية، فاضحة، قد يصاب بصدمة تجعله يرفضها رفضا قاطعاً، أو يعمل على إخفائها أو طمسها ولو خالف ذلك مبادئه.

ومن هنا، نفهم الأسباب التي تدفع المرء إلى ترك الحقيقة، لأن الجهل بها في هذه الحالة يولّد لديه نوعا من الراحة والطمأنينة، وهو ما يلمح له روسو حين يدعو قارئه إلى الحلم، حلم اليقظة، كي ينأى بنفسه عن واقع يمكن أن يخيّب ظنه، فيغدو الوهم حينئذ أفضل من الحقيقة.

وقد يكون في إفشاء الحقيقة خطر، كما هو الشأن في الاكتشافات العلمية، التي قد يؤدي الكشف عنها إلى الاستحواذ عليها، واستعمالها استعمالا غير الذي يرجوه لها المكتشف. بل قد يكون حتى مجرّد البحث عنها مبعث خطر، كما أكّد هانز يوناس في “مبدأ المسؤولية”، حين بيّن المخاطر التي يمكن أن تَنجم عن الثقة المفرطة في الوسائل التقنية والتكنولوجية، لأنها قد تكون خطيرة ومضرّة. وفي تلك الحالة، يصبح التخلي عن الحقيقة أفضل.

غير أن بعض المفكرين يذهبون إلى القول إننا لا يمكن أن نتخلى عن الحقيقة، لأن الالتزام بها قد يمكن صاحبها من تجنب الآثار السلبية التي قد تعود عليه هو نفسه بالمضرة. ذلك أن العواقب الوخيمة للحقيقة، ليست هي نفسها الحقيقة، فقد تكون العواقب مضرة، ولكن الحقيقة في حدّ ذاتها محايدة.

وحتى وإن كانت عواقبها لا تسرّ، فلا يعني ذلك ضرورة التخلي عنها. فالباحث يمكن أن يتساءل عن سبل استعمال مخترعاته على نحو مضرّ، ولكنه ليس بوسعه أن يتخلى عنها، لأن العلم يتطور عن طريق انتقال المعرفة، كما بيّن كانْت أو كارل بوبر، وبإخفاء الحقيقة أو التراجع عنها يفقد البحث العلمي أسباب تطوره، بل قد يصبح التطور العلمي مستحيلا.

من يعلم بالحقيقة عارية، فاضحة، قد يصاب بصدمة تجعله يرفضها أو يعمل على إخفائها أو طمسها ولو خالف مبادئه

ولو فرضنا أن الفرد يتخلى عن الحقيقة عن خوف أو جبن، لكونها تحمل في أعطافها مخاطر، شخصية أو عامة، فإن ذلك سوف يخلق صعوبة الوصول إلى الحقيقة. ومن ثَمّ لا بدّ من أن يتحلى المرء بما أسماه ميشيل فوكو “شجاعة الحقيقة”، أي أن يقول الحق دون أن يخشى لومة لائم، أن يقوله ولو كان مرًّا، أن يجرؤ على قول ما يعتبره حقيقة ولو كان في غير مصلحته.

ذلك ما يروجه المنظرون في علم الأخلاق والفلاسفة والمفكرون، وهو كلام جميل ومنطقي في المطلق، أي حين يكون المرء في سعة، ليس له ما يزعجه، ولكن الواقع عكس هذا، فليس من السهل أن ينطق غاليليو بحقيقة علمية تخالف ما استقر في ذهن مجتمعات جمّد الفكر الديني تفكيرها، وحكم عليها ألا تنظر إلى المسائل كلّها، حتى ما كان العلم مرجعه، إلا من زاوية المعتقدات الدينية البالية. أن يصرّ على ذكر ما رأى رأي العين واستخلص حقيقته كان سيؤدي به إلى موت محتوم.

ومن ثَمّ كان تراجعه أمام الكنيسة التي انتصبت لمحاكمته وتكفيره، حتى وإن كان ذلك مناورة، حيث احتفظ بحقيقته لنفسه، ودوّنها في مخطوطات استفاد منها العلم من بعده، وأكد على أهميتها البالغة في تغيير نظرتنا إلى الكون.

وقس على ذلك أمثلة كثيرة عمن راموا النطق بالحقيقة فكان مآلهم السجن والتنكيل والنفي والإقصاء، أو خنق أصواتهم وأنفاسهم نهائيًّا، خاصة في الأنظمة الاستبدادية ذات الحكم العسكري أو الفردي المطلق.

فكيف نتمسك إذن بالحقيقة ولا نتخلى عنها؟ والجواب: بوضعها في شكل يسمح بتجنب الجرح الذي يسببه الكشف عنها. “فالفن مثلا يمكن أن يسمح لنا بالكشف عن الحقيقة، دون العنف الذي يرافق ذلك الكشف” على حدّ تعبير مارسيل بروست. 

13