الاحتجاجات المستمرة ضد المؤسسات التربوية تعكس عمق أزمة التعليم في تونس

شكل تردي ظروف الدراسة في تونس سببا لاندلاع احتجاجات جديدة لأولياء الأمور والتلاميذ في جهات مختلفة من البلاد للضغط على الحكومة من أجل تحسين واقع التعليم، حيث اكتفت السلطات بحلول ترقيعية دون معالجة حقيقية لهذه الأزمة.
تونس - عكست الاحتجاجات التي خاضها عدد من أولياء الأمور والتلاميذ في تونس خلال الآونة الأخيرة عمق الأزمة التي يعيشها واقع التعليم بالبلاد مع تواصل حالة عدم الرضا على أداء المؤسسات التربوية.
وقام أولياء أمور بتحركات احتجاجية في جهات مختلفة من البلاد في الأسبوع الماضي تنديدا بظروف الدراسة السيئة.
وشهدت السنوات الأخيرة احتجاجات مستمرة لمطالبة الحكومة بمعالجة أزمة قطاع التعليم الذي يعيش أسوأ فتراته حسب الخبراء بسبب تراجع جودته وما يعانيه من نقائص خاصة على مستوى البنية التحتية.
وحسب المرصد الاجتماعي بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد وقع تسجيل 517 تحركا احتجاجيا أي ما يعادل 8 في المئة من مجموع الاحتجاجات التي تتمحور حول قطاع التعليم. وأشارت نجلاء عرفة الباحثة في علم الاجتماع في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية إلى أن “هذا الرقم يعد هاما ويعبر عن الإشكاليات التي يعيشها التلميذ” والذي وصفته بـ”الحلقة الهشة اليوم بوسطه المدرسي بمختلف مكوناته”.
وأضافت أن احتجاجات الأولياء والتلاميذ خلال الفترة الممتدة من يناير إلى أغسطس من العام الجاري كانت بالخصوص بسبب اهتراء البنية التحتية والمركبات الصحية وعدم ربط بعض المؤسسات التربوية بشبكات الماء الصالح للشراب والعنف المسلط على التلميذ بمختلف مصادره وكذلك التحرش الجنسي الذي يتعرض له عدد من التلاميذ والذي كان من المسائل المسكوت عنها سابقا.
ولفتت الباحثة إلى أن الطفل اليوم يعيش بين متضادين؛ بين محيط أثثه بالانفتاح عليه لعبت فيه التكنولوجيا دورا هاما، وبين مجتمع يعامله وفق التنشئة القديمة التي لا تقدر الطفل كذات فاعلة.
وتتمظهر ردة فعل الطفل من خلال رد العنف بالعنف أو الانزواء التام عن الأولياء والمنظومة التربوية وهو ما يتسبب في الكثير من الأحيان في الانقطاع المدرسي بسبب هذه الفجوة بين المنظومة التربوية وما يعيشه الطفل في محيطه الخارجي من تجاذبات.
72991 تلميذا من بينهم أكثر من 34 ألفا من مرحلة التعليم الثانوي انقطعو عن الدراسة في تونس
وبرأي عرفة فإن القائمين على المنظومة التربوية اعتمدوا حلولا ترقيعية دون خوض إصلاحات جوهرية مع غياب مشروع مجتمعي تكون الطفولة محوره.
وشددت على ضرورة حماية الطفل في الشارع عبر تدخل جميع الهياكل الحكومية والأطراف المعنية، لاسيما حمايته من العنف المسلط عليه في المحيط المدرسي، وكذلك مختلف أشكال الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها يوميا.
ولطالما أبدت الأسر التونسية قلقها من تدني مستوى التعليم بالبلاد على غرار الظروف السيئة التي لا تحفز الأطفال على الدراسة والإنتاجية والإبداع.
وسبق أن كشف تقرير للبنك الدولي أن منظومة التعليم في تونس وراء هدر حوالي نصف القدرات التربوية للطفل. وكانت تقارير دولية ومحلية سابقة قد أكدت أن عدد ضحايا نظام التعليم في تونس يتجاوز بكثير أعداد الناجحين.
وبحسب مؤشر رأس المال البشري الصادر عن البنك الدولي في العام الماضي، فإنه إذا استمرت الظروف الحالية للتعليم والصحة في تونس على حالها، فإن الطفل حديث الولادة لن يصل إلا إلى 52 في المئة من قدرته الإنتاجية عندما يصبح شخصا بالغا. وهو ما يعني أن الخدمات التي توفرها منظومتا التعليم والصحة في تونس تتسبب في هدر قدرات الطفل التونسي بنسبة تصل إلى حوالي النصف.
وكشف المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأسبوع الماضي أن الأرقام الرسمية لوزارة التربية بينت أن حوالي 20 في المئة من تلاميذ المرحلة الإعدادية ينهون هذه المرحلة في 9 سنوات.
وقُدّر عدد التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة في تونس عند نهاية السنة الدراسية الماضية بـ72991 تلميذا من بينهم أكثر من 34 ألفا من مرحلة التعليم الثانوي، و31 ألفا من مرحلة التعليم الإعدادي و7220 تلميذا من المرحلة الابتدائية.

وشرح مدير الدراسات والتخطيط بوزارة التربية طارق الجبالي في تصريح لوسائل إعلام محلية أسباب ارتفاع ظاهرة الانقطاع المدرسي بالبلاد.
وتعود أسباب ظاهرة الانقطاع المدرسي التي تكون بنسبة 60 في المئة بصفة تلقائية وبنسبة 40 في المئة بصفة قانونية (رفت) إلى عدة عوامل أسرية ومجتمعية تتعلق بتدني المستوى الاقتصادي والاجتماعي والصحي والنفسي، علاوة على عوامل تتعلق بإخلالات ونقائص في المنظومة التربوية والوسط المدرسي، وفق الجبالي.
وتتعلق الإخلالات والنقائص في المنظومة التربوية والوسط المدرسي بالخصوص بضعف منظومة التواصل والحوار داخل المؤسسة التربوية والافتقار إلى قنوات المتابعة والعلاج والمرافقة واعتماد النمط التقليدي في التعليم وعدم مواكبة البرامج والكتب المدرسية لنسق إنتاج المعرفة المتسارع وتطور وسائل الاتصال وعدم مراعاة طرق التدريس واختلاف أنساق التعلم لدى التلاميذ واحتياجاتهم الخصوصيّة، إضافة إلى التضخم في الزمن المدرسي وضعف التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين.
وحذر خبراء ومختصون من الكلفة الاجتماعية للانقطاع المبكر عن التعليم باعتبار صلتها الوثيقة بالجنوح نحو السلوكيات المحفوفة بالمخاطر مثل الإدمان والجريمة والهجرة غير النظامية والتطرف العنيف والإرهاب إضافة إلى التفكك الأسري.
وذكر الباحث شاكر السالمي في تصريحات صحافية “سوف تدفع الدولة فاتورة مضاعفة جراء تداعيات الانقطاع المدرسي المبكر، حيث ستضطر إلى وضع استراتيجيات وخطط وبرامج وبعث مراكز ومؤسسات للتدخل وتسخير موارد بشرية ضخمة ستكلفها إمكانيات مالية مهولة وكلما تباطأت في القيام بهذه الإجراءات زاد الأمر تعقيدا”.
وخلص السالمي إلى أن الدولة مدعوة إلى اتخاذ جملة من الإجراءات المستعجلة ومن بينها دعم التعليم العمومي والتعجيل بمراجعة النظام التربوي حتى يكون رافعة للمعرفة ومشروعا مجتمعيا يكرس الحقوق ويرتقي بالقيم الإنسانية ويدفع نحو التنمية والبحث العلمي والإبداع في جميع المجالات، فضلا عن وضع آليات ناجعة ترتكز على العمل الشبكي من أجل مقاومة الانقطاع المدرسي والاستفادة من التجارب المقارنة في هذا الصدد.