مخرج هائم في خياله يصطحب الجمهور إلى قصص مدهشة

"كاستينغ".. مسرحية سورية تقدم تحية للسينما بكل تفاصيلها.
الخميس 2021/10/07
أزمان وشخصيات متداخلة تحكي عذابات الناس

لا حدود في الفن بين المسرح والسينما، فأحلام مبدع قد تبدأ هنا لتنتهي هناك. في المسرح بوح يقدَّم حارا أمام الناس أما السينما فتجعل بينها وبين جمهورها وسائط، لكن عرض “كاستينغ” يؤكد أن لا حدود صارمة بين الفنين، فهذه المسرحية عبرت حدود الفنون، وسلطت حكايتها على السينما عبر أبطالها الثلاثة الذين تقاطعت مصائرهم في عاصفة من الأحداث.

تبدأ أحداث مسرحية “كاستينغ” قبل أن تبدأ. مخرج سينمائي وراء طاولة، يكتب أشياء ويرتشف مشروبا تحوطه شاشة سينمائية كبيرة تعرض مشاهد لأفلام عالمية، بينما يدخل الجمهور إلى الصالة بحركته وصخبه المعتادين. يقرع صوت جرس. يبدأ العرض.

إنه جو المخرج السينمائي الذي يبحث عن بطلة لفيلمه الذي سيصوره قريبا. هو مخرج كبير ينتظر تحقيق فيلم عظيم. تباغته فتاة جميلة وبسيطة، تدخل إلى المكان راغبة في أن تعرض موهبتها عليه. يرفضها كونه على موعد مع عمل طارئ، لكن إلحاحها يدفعه إلى مسايرتها فيقبل. يطلب منها نزع كل ما يشوه شخصية الفتيات في عصرنا من ماكياج وباروكة شعر ولبان تمضغه، فتلتزم الفتاة، وتبدأ اللعبة.

متاهات في الخيال

العرض حفل بأسلوبية جديدة كان من أهمها التداخلات الزمنية التي ولّدتها طبيعة الأحداث في سياق الحكاية

رحلة التشويق في العرض بدأت، الفتاة تقدم للمخرج في حوارهما الكثير من تداعياتها وذكرياتها عن حياتها المهنية البسيطة التي لا تتجاوز بعض الأعمال البسيطة والأدوار الثانوية. فهي تعشق فيلما سينمائيا لكنها لا تعرف اسمه، وشاركت في مسرحية أدت فيها شخصية جثة.

 تسير الأمور بين الرفض والقبول بمواقف تقترب من الكوميديا، حيث التناقض بين مخرج سينمائي جدي وفتاة بسيطة تحب الفن. وفي حالة التشويق التي تتصاعد مع تقدم الأحداث يطلب المخرج من الفتاة إخباره عن حبيبها الذي انفصلت عنه وسافر بعد أن تركها عاشقة محطمة، ونذهب في رحلة جديدة من التشويق، يصير المخرج جو هو جهاد الحبيب الذي رحل. فيأخذ دوره في الحكاية ويصير في موقف المخاطب. وتبدأ الفتاة في نبش ذكرياتها ومواجعها التي خلفتها علاقتها المضطربة مع حبيبها جهاد.

تبلغ رحلة التشويق سموا عاليا عندما تتكشف بعض تفاصيل حياتها، وكيف استغل جهاد حبها ليقضي برفقتها أوقاتا ممتعة كما سماها، ثم تركها في مواجهة مصيرها المأزوم. في المضمون الأعمق للحكاية نكْءٌ لتلك الجروح عن قصص وجراحات خلفتها ذهنية ذكورية طاغية، تجعل من الفتاة المحبة مطية لركوب مهاوي المغامرات التي تصل إلى حد تعاطي المخدرات والسهر وتسليم الجسد حتى تكون النهاية المزيد من التألم ومرارات الهزيمة.

يذهب بنا كاتب ومخرج المسرحية سامر محمد إسماعيل إلى مسافات تشويق أبعد، فيقدم المزيد من لعب الدراما. يقرر المخرج جو أن يجسد مع الفتاة حالة فنان يرسم حبيبته التي لا تراه لأنها أصيبت بحالة عمى مؤقت وتبدأ اللعبة مجددا. تعترض عليه كونه رسمها وهي عارية ولن تسمح بإقامة معرض تظهر فيه بلوحات عارية لأن بيئتها لا تسمح بذلك.

ويكون الصدام في الرؤى ويصبح الجو متوترا أكثر عندما حاول المخرج تقديم دور ممثل يريد أن يلمسها بعد أن ارتدى قناعا فترفض لكنه يقنعها فتتابع. وتصل بحكايتها وآلامها إلى نقطة تعرضت فيها للاغتصاب عندما كانت تمارس عمل بائعة متجولة بعد أن خُدرت. فتحكي عنها، وبعد فورة غضب يسألها: لماذا جئت إلي؟ تهرب من الجواب، يعيد السؤال فتجيب: كي أصبح مشهورة. يعيد بغضب: لماذا جئت؟ وتحت قسوة يديه على جسدها تجيب: كي آتي بالمال وأدفع الفواتير وأعالج أمي وأساعد أهلي وأغير سكني.

يطلب منها المخرج أن ترحل لأنهما لم يتفقا فتطلب منه مشاهدة شيء، تأتي إليه بزجاجة مغلقة، تخبره بأن فيها سائلا حارقا وأن من تعرضوا لها بالأذى رموا عليها هذه المادة وصار جسمها مشوها، وأنها ستنتقم منه وترميه بهذا السائل الحارق، يدب الرعب في المخرج ويخشى أن ترميه بها، وهذا ما يكون في لحظة درامية بلغ فيها العرض أعلى حالات التشويق. فالفتاة أحرقت وجه المخرج. يصيح متألما وينهار حلمه بتحقيق فيلمه، يصيح بأعلى صوته راجيا ألا يقتلوا حلمه في الفن والسينما، يشتمها لكن لا فائدة فما كان كان، وفي لحظة هستيرية منها تخبره بأن المادة ليست سائلا حارقا بل مجرد ماء، يذهل المخرج ويلاحظ أنه لم يتأذى.

 تحاصر الدهشة الجمهور وتحيله إلى فراغ مربك، وما هي إلا لحظات حتى يتغير ديكور المكان، فتظهر زوايا بيت مليء بالبوستارات السينمائية. وتدخل زوجة المخرج وهي توبخه على ما فعل مجددا. الصالة تحت سطوة الصمت والدهشة. جو يتخيل كل ما حدث، وكل ما شاهدناه حتى اللحظة هو هواجس جو التي يحياها فقط في أحلامه. تخاطبه بغضب: لن ينتجوا لك هذا الفيلم يجب أن تخرج من الوهم وتكتب نصا آخر وتلغي هذه العادة التي تفعلها يوميا…

تحية للسينما

Thumbnail

حفل العرض بأسلوبية جديدة كان من أهمها التداخلات الزمنية التي ولدتها طبيعة الأحداث في سياق الحكاية. فالأزمنة والشخصيات متداخلة بين الحقيقة والخيال. جوليا شخصية حقيقية في الحياة، لكنها في العرض أمنية في فيلم مبتغى. جو مخرج سينمائي حقيقي لكنه في الحياة مسحور بعالم السينما ويعيش في أحلامها غائبا عن الحقيقة، أما جهاد فهو شخصية غائبة لكنه بآثاره التي تركها حقيقي، ترك ردود أفعال قاسية على جوليا ومحيطها.

كذلك قدم العرض حالة سينوغرافيا حضرت فيها السينما بشكل قوي عبر شاشة احتلت مساحة كبيرة من خلفية المسرح الذي يمثل أستديو تصوير سينمائي ومن ثم منزل شخص شغوف بالسينما. وعلى الشاشة قدمت العديد من المشاهد السينمائية التي أكدت فكرة شغف جو بالسينما.

 كذلك ظهر جليا التحدي عند سامر إسماعيل كاتبا للنص بتقديم نمط مختلف في شكل طرح حوامله الفكرية التي سينتهي إليها العرض فقدم أسلوبية مختلفة لا تعتمد مبدأ الحكاية التقليدية، بل توجه نحو تبني شكل درامي اعتمد فيه على ما يتقاطع مع أسلوب التعليب في الطرح الحكائي المسرحي الذي يقدم قصة من خلال قصة، مع تقديم جرعات متصاعدة من حالة التشويق التي استطاع من خلالها الإمساك بدهشة المتلقي حتى نهاية العرض.

المسرحية قدمت حالة سينوغرافيا حضرت فيها السينما بشكل قوي عبر شاشة احتلت مساحة كبيرة من خلفية المسرح

يبدو التماهي موجودا بصيغة أو بأخرى بين شخصية جو بطل مسرحية “كاستينغ” وبين كاتبها ومخرجها سامر محمد إسماعيل صاحب مسرحيتي “ليلي داخلي” و”تصحيح ألوان”، وهو الذي يحمل شغف السينما في خياله إلى أبعد درجة. إسماعيل سبق وأن قدم العديد من التجارب السينمائية في سوريا، بدءا من فيلم “سلم إلى دمشق” الذي أخرجه محمد ملص ثم عدد من الأفلام القصيرة منها “توتر عالي” و”على سطح دمشق” ولاحقا سيناريو الفيلم الطويل “مدد” ثم “حنين الذاكرة” و”ما ورد” عن رواية “عندما تقرع الأجراس” للكاتب محمود عبدالواحد وأخيرا قدم فيلم “يحدث في غيابك”، كما قدم في الموسم الفائت أول دراما تلفزيونية طويلة حملت عنوان “ضيوف على الحب”.

عمله الإبداعي الأحدث في فن المسرح، لكن التعلق بالسينما موجود في كل تفاصيل العمل، فالحكاية بشخوصها وتفاصيل مكانها تتحدث عن فن السينما. يتحدث سامر إسماعيل عن تماهي الحالة السينمائية مع المسرح في عرضه الحالي قائلا “العرض تحية لفن السينما، لذلك الفن البهي المليء بالجمال، السينما هي الفن الذي قدم لنا الكثير من الحب والحياة، والذي كان له حضور كبير في حياتنا اليومية. ولكن السينما تتراجع اليوم أمام مستحدثات العصر باقتحام منصات العرض لهذا الفن النبيل وفرض سطوتها في شكل العروض وإنتاجه”.

ويضيف “في فن السينما كل شيء مليء بالإبداع والجمال بدءا من مرحلة الكاستينغ التي يختبر فيها المخرج قدرات من سيشارك معه بالعمل في التمثيل وحتى مرحلة عرض الفيلم، السينما قدمت للإنسان الكثير وجسدت حيوات أناس وأعادت صياغتها ووثقتها في أفلام ستبقى للتاريخ. فتحية لفن السينما”.

ويذكر أن مسرحية “كاستينغ” بدأ عرضها بدمشق في ثاني أيام شهر أكتوبر الجاري على مسرح القباني. وهي من إنتاج المديرية العامة للمسارح والموسيقى في وزارة الثقافة في سوريا. وقام بكتابة وإخراج المسرحية سامر محمد إسماعيل وشارك فيها تمثيلا عامر العلي الوجه المعروف في ساحة الفن السوري والذي قدم من خلالها قدرات مسرحية هامة كانت خافية على الجمهور السوري ودلع نادر في أول إطلالة احترافية لها في المسرح بعد تخرجها حديثا، وقد نجحت فيها بتحقيق صدى طيب ومجد نعيم التي قدمت دور الزوجة المعذبة بسلاسة. وقدم الإضاءة والسينوغرافيا أدهم سفر وصمم الديكور محمد كامل أما الموسيقى فكانت من تأليف رامي الضللي.

Thumbnail
14