"جسر بضفة وحيدة" رواية تنقل قرّاءها إلى متاهة سريالية

يمكن للرواية ما لا يمكن لغيرها من أجناس الأدب الأخرى، حيث تسمح لها مساحتها وتمازج الفنون في متنها بتناول الكثير من الأفكار المربكة والمحيرة بزوايا متنوعة، وربما كانت قضية الحياة والموت من أعقد القضايا الفكرية الوجودية، التي ناقشها وما زال يناقشها الأدب والروايات بشكل خاص، وفي كل مرة يجد القراء أنفسهم أمام كشف جديد، كما هو الحال مع رواية “جسر بضفة وحيدة”.
عمان – ما إن يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من رواية “جسر بضفة وحيدة” للكاتبة الأردنية هيا صالح، حتى تتلبسه حالة من القلق والارتباك والحاجة إلى إتمام السرد ومعرفة المزيد من الأحداث ومصير الشخصية الرئيسة فيها. إذ تستمر الحيَوات التي طوتها الأوراق في مواصلة العيش والتغلغل في مسام وعي القارئ وتلبُّسه والسيطرة عليه، ليدرك أن ما بقي من أحداث يودّ معرفتها يمكنه هو تشكيلها ضمن رؤيته الخاصة وتجربته الذاتية.
خطان سرديان
اعتمدت الكاتبة في روايتها على السرد الذي يميل للغرائبية والفانتازيا، ووظفت شخصيات مركّبة وجدلية، بخاصة في ما يتعلق برؤيتها للحياة وتصورها للعالم من حولها، وهو التصور الذي تَشكّل بفعل ماضي تلك الشخصيات وذكرياتها التي شيّدت حولها أسوارا من العزلة والتوحّد والرغبة في العودة إلى مكانها الأول/ ذكرياتها الأولى/ رحم وجودها الأول، وهي حين لا تتمكن من العودة ماديّا وجسديّا، تعود إليها نفسيّا وعبر استدعاء الذكريات الماضية التي تستقر عميقا في لا وعيها.
الرواية تناقش مفهوم الحقيقة عبر شخصيات تفني نفسها باحثة عن معنى وجودها في خضم أحداث تسقط المسلّمات
تطرح الرواية، الصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” بعمّان، مفاهيم تتعلق بالذاكرة التي هي “ماكينة” غريبة، تشبه شرائح الكمبيوتر، غير أنها تختلف عنها في مستوى الدقة؛ فالمعلومة الرقمية تبقى كما هي وتظهر عند استدعائها بالشكل الذي خُزّنت عليه، أما الذاكرة فلا، إنها تتأثر بمشاعرنا وأحلامنا ومخاوفنا، وترتبط بإدراكنا أو تصورنا للحدث الحقيقي.
وهذا ما قد لا يتطابق مع الحدث الأصلي، لذا عندما نحاول أن نتذكّر حدثا ما، فإننا لا نتذكره نفسَه، وإنما يحضر تصوُّرَنا عنه، فالذكريات لا تشبه مقاطع “الفيديو” أو الصور الموثقة، وهي غير ثابتة على مدار الزمن، إنها شديدة الشبه بـ”الخلّاط الكهربائي”، لأنها تدمج معلومات وتفاصيل جديدة مع ما اختزنته من أحداث، لذا فإنّ تذكُّرنا للأحداث هو في حقيقته إعادة تخيُّل لها لا يخلو من الإبداع.
كما تناقش الرواية مفهوم “الحقيقة” عبر شخصيات تفني نفسها باحثة عن معنى وجودها وحقيقته في خضم أحداث تضرب عرض الحائط بكل المسلّمات وما يطلق عليه حقائق. ومثال ذلك ما نطالعه في هذا الحوار المأخوذ من الرواية بين الشخصية الرئيسة والشاب الغامض الذي يعمل في المقهى “عليكِ الإيمان بالرؤية لِتَرَي./ هذا مناف لكلّ ما أعرفه./ وما الذي تعرفينه؟ ربما تكتشفين في لحظة ما أنكِ لا تعرفين حتى أقرب الناس لكِ.. بل أحيانا يصعب أن تعرفي نفسَكِ. فلا تحدّثيني عمّا تعرفينه”.
بُني المتن الحكائي للرواية ضمن خطَّين سرديَّين، خطّ الماضي من خلال الفصول التي تعود بها بطلة الرواية إلى الأيام الخوالي، وخطّ الحاضر الذي يؤشر على حياتها الراهنة المعاشة، وقد استخدمت الكاتبة صيغة الماضي لاستجلاء أحداث الفصول التي تتحدث عن الماضي، بينما استخدمت صيغة الفعل المضارع للتعبير عن الفصول التي تتناول مجريات اللحظة.
وبين الخطَّين ثمة نقاط تقاطُع تشرح وتفسّر وتحلّل الجانب النفسي للشخصيات، وثمة أيضا فراغات كثيرة متروكة لرؤية القارئ وتأويله.
تفتتح الرواية بوصول رسالة شديدة الغموض للشخصية الرئيسة “سامية”، التي تجد نفسها مدفوعة للبحث في ماضيها والعودة إليه فتجده مستقِرا بكل ثقله في لا وعيها، وهي أمام السؤال الكبير “هل يمكننا إصلاح أخطاء الماضي؟”.
أحياء وأموات

تحضر الموسيقى بشكل أساسي وفاعل، ومعها التأمل في مسائل تتعلق بالحياة والوجود
تمضي البطلة في رحلة غرائبية تبحث عمّن فقدتهم بالموت، أو مَن تركتهم بسبب الحرب، أو مَن جرحتهم وآذت مشاعرهم، لتدخل رويدا رويدا إلى عالم الموت الذي يجثم بثقله على حياتها.
وفي ذلك تقول الكاتبة “حاولت أن أرسم للموت شكلا ووجودا ماديا، أو كيانا محسوسا، لأطرح من خلال ذلك جملة من التساؤلات التي يمكن أن يجدها بعضهم مثيرة ومستفزة”، مضيفة “أردت تشكيل وعي عميق حول ثنائية الحياة والموت، أو الأحياء والأموات، وكيف يؤثر كلّ من طرفَي هذه الثنائية في الآخر”.
وبدافع من تلك الرسالة الغريبة، تعصف الأحداث غير المعقولة بحياة البطلة، إذ تتشكل علاقة مرتبكة بينها وبين شاب يعمل في مقهى في منطقة معزولة، ثم تتحول البطلة إلى امرأة مشتبه بها في جريمة قتل، قبل أن تلتقي بسكرتيرة والد زوجها التي تكون هي أيضا شخصية غريبة وتمتلك طاقة مؤذية، ثم يعود الرجل الذي شكّل أول حب في حياتها للظهور، ويقلب وجودُه حالةَ الاستقرار التي تعيشها.
هذه الأحداث السريالية تُدخل القارئ في متاهة تجعله غير قادر على التمييز بين الشخصيات؛ مَن منها على قيد الحياة ومن منها فارقها. وبحسب صالح؛ كانت هذه البنية مقصودة، وتوضح هذا الجانب بالقول “تعمدت ذلك الخلط بين أحياء وأموات، كي يجد القارئ نفسه يعيش في خضم العالمين معا، وبالتالي تصبح فكرة وجود ذلك الجسر الذي يتواصل فيه الأحياء مع الأموات معقولة ومقبولة”.
وضمن البناء لثيمات الرواية تحضر الموسيقى بشكل أساسي وفاعل، ومعها التأمل في مسائل تتعلق بالحياة والوجود، وبالكتابة والقراءة، وكلها تتعالق مع شخصيات الرواية التي يحملها السرد بلطف كأنها تطفو فوق مياهه العميقة بخفة وبراعة، وهذا ما شكّل عنصر جذب كبيرا في الرواية إلى جانب أن القارئ سيجد نفسه يلهث وراء الأحداث ومعرفة مجرياتها التي تأتي غالبا لتكسر أفق توقعه وتدهشه، وتثير لديه الأسئلة أكثر مما تمنحه الأجوبة، تاركة إياه في حالة تأهب دائمة.
تقول صالح “أرى أن فعل الكتابة هو وعد للقارئ بخوض مغامرة تهدف إلى الإمتاع، أجهّز له من جهتي الأدوات اللازمة لذلك، ثم أترك له حرية خوض المغامرة بالطريقة التي تناسبه”.
يُذكر أن هيا صالح روائية وناقدة ومؤلفة وكاتبة سيناريو أردنية. صدر لها في الرواية “لون آخر للغروب” التي فازت بجائزة كتارا للرواية العربية (2018)، و”شقائق النعمان” التي فازت بجائزة “اتصالات” لكتاب العام لليافعين، و”تراب مضيء”. ولها في النقد “الخروج إلى الذات”، و”سرد الحياة”، و”المرجع وظلاله”، و”أبواب الذاكرة”، و”المسافة صفر” الذي فاز بجائزة ناصرالدين الأسد للدراسات النقدية (2016). وكانت صالح قد نالت جائزة الدولة الأردنية التشجيعية (2017)، وجائزة أفضل كتاب عربي للطفل (2013)، وجائزة النص المسرحي الموجَّه للطفل/ المرتبة الثالثة (2013)، وجائزة ناجي نعمان الأدبية (2013).