سائرون في عتمة الشاشات يروون سيرهم الذاتية بين الصدق والخيال

ما تزال السيرة الذاتية تجتذب جمهورا عريضا مأخوذا بشكل فطري وغريزي إلى جانب المصداقية وكيف نشأت وتطورت تلك الشخصيات الاستثنائية التي استحوذت على الاهتمام، أو أنها حققت حضورا استثنائيا أو توصلت إلى منجز غير مسبوق.
والسؤال الذي يطرح بقوة إنما يتعلق بدرجة المصداقية في أفلام السيرة الذاتية التي يعبر الجمهور العريض بشكل مستمر عن شغفه بها، ولربما منجذب إلى “الصنعة” التي من خلالها تم رسم وبناء الشخصيات وتقديم تحولاتها في شكل سينمائي جذاب.

جمهور أفلام السير الذاتية متساهل إلى حد كبير في مسألة المصداقية ومنجذب إلى القصص في حد ذاتها
في هذه الحالة سوف نكون مع جمهور متساهل إلى حد كبير في مسألة المصداقية ومنجذب إلى تلك القصص في حد ذاتها وبمقدار ما تحتويه من تحولات درامية وحبكات متقنة وشكل سينمائي جذاب وتشويق ومتعة في المتابعة، وتلك في حد ذاتها إشكالية تواجه صانعي هذا النوع من الأفلام، وذلك في سياق بحثهم عن قصص وشخصيات يمكن الارتكاز عليها بلا مزيد من وجهات النظر المتقاطعة التي تراها من أوجه متعددة.
وفي سياق البحث في المصداقية والتغلغل في تاريخ الشخصيات الأكثر حضورا وتأثيرا، كانت حقبة نضال السود مثلا من الموضوعات التي طالما اشتغلت عليها السينما الأميركية، وكان الانتصار إلى كفاح السود هو رائد تلك الأعمال، ليترافق ذلك مع جدل يتعلق بالحقوق والحريات وبصورة الأميركي الأبيض في مقابل الأميركان من أصول أفريقية.
في فيلم “هارييت” للمخرجة كاسي ليمونز، تم تقديم الفصول الأكثر إثارة في تاريخ العبودية الراسخة لقرون في العقل الجمعي للمجتمع الأميركي، وهو التاريخ الحافل بالضحايا والدماء والأحزان وكل ذلك جاء في مقاربة تجمع ما بين الدراما والسيرة الذاتية والتاريخ، لتغوص المخرجة عميقا في واقع المجتمع الأميركي القائم على الطبقات ونظام الرق وذلك في القرن التاسع عشر.
وكأن ذلك الواقع الكابوسي بمثابة قدر لا سبيل سوى التسليم به، لاسيما وأنه مدعوم بتشريعات وقوانين صارمة وتطبيق لا يعرف الرحمة على الخارجين عليه، وقد اختارت المخرجة نموذجا صارخا من تاريخ العبودية الأميركية هو جانب من سيرة هارييت، الفتاة التي وجدت نفسها وهي في سن المراهقة تتشبث بأمل هش في أن تتحرر من العبودية، وقد خدمتها فرصة وعد مكتوب أعطاه جدّ مالكها الحالي من أسرة بورديس بعد أن تبلغ الأم سن الخامسة والأربعين.
على أن الحفاظ على مصداقية الحقيقة التاريخية لسيرة هارييت لم يمنع بث العديد من الحبكات الثانوية، ومنها مثلا اكتشاف أن حبيبها الذي أخلصت له وعادت من أجله متحمّلة المخاطرات والمصاعب قد نسيها وتزوّج من امرأة أخرى، وهو ما سوف يشكل صدمة بالنسبة إليها، وأما على الجانب الآخر وفي أوساط البيض فما يزال غيدوين يمارس فعل الابتزاز منتزعا ابني شقيقة هارييت لكي يكونا طعما يتم من خلاله جلب هارييت للقصاص منها.

"هارييت" فيلم قدم الفصول الأكثر إثارة في تاريخ العبودية الراسخة لقرون في العقل الجمعي للمجتمع الأميركي
في المقابل نجد أن فيلم “أليس ووكر” ما هو إلا تلخيص متقن للسيرة الإنسانية كما الإبداعية التي امتدّت إلى أكثر من نصف قرن لهذه المبدعة، التي ما تزال منتجة ومبدعة، إنها خلاصة تاريخ شامل عرفته أرض الولايات المتحدة وخاصة ولايات الجنوب أو ما يعرف بالحزام الأميركي من السكان السود أو من الأصول الأفريقية، الفتاة التي ترعرعت في عمق الجنوب، في ولاية جورجيا فيما تظهر صورة جدة الكاتبة التي كابدت مآسي التمييز العنصري والعرقي، تظهر الجدة متكئة على عصا بينما تمضي وسط تلك السهوب لتعلن أليس أنها قد استمدّت اسمها الفني “ووكر” من مسير جدتها وكفاحها المضني، بهذه الصور المتدفقة نتابع فيلم “أليس ووكر”من إخراج بارتيبا بارمر.
وفي إطار جدل المصداقية والواقعية يغوص الفيلم في الحياة الشخصية في إضاءة مهمة لتلك السيرة، فتحت وقع ثورة الحريات وأغاني منتصف الستينات، تلتقي ووكر كاتبا وثائرا مدنيا ولكنه أبيض وديانته يهودية وهو الشاعر والمؤلف المعروف ميلفين ليفنثال، ويرتبطان بعلاقة وثيقة تتوج بالزواج والإنجاب وسط استغراب بيئتها الثائرة أصلا على البيض ونزعتهم العنصرية إبان تلك الحقبة، ولهذا كانت على الدوام تردد: نعم أنا مختلفة.
وأما على صعيد الشكل الفيلمي، يقدم الفيلم مزيجا من نصوص أليس ومذكراتها وأجواء الحركات النسائية والمدنية في تدفّق مؤثر عميق للشاعرية، وهو ما رفع من شعبية وأهمية أليس ووكر ومنحها مكانة رفيعة ظلّت تتعزّز في جميع الأوساط على أنها الكاتبة السوداء المتفردة التي ولدت لكي تكون كاتبة ولهذا تواصل جولاتها في المدن الأميركية، تقرأ من نصوصها وتلتقي جمهورها وتُعرِّف بالنضال من أجل الحقوق المدنية التي نذرت نفسها من أجلها.
هذا المثال المبني على فكرة الصراعات العرقية والإثنية بما يحمله من حساسيات فائقة يقودنا إلى تلك المصداقية في تتبع تلك السيرة الغامضة وحيث الشخصيات تسطر تحولاتها وأفكارها على الشاشات، بينما للواقع الحقيقي وجوه أخرى ومرويات موازية، فضلا عن ركام من الشهادات التي يرويها كل من وجهة نظره.