من يمتلك البيانات يحكم العالم مستقبلا

كل التطورات تشير إلى حرب باردة تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة والصين. أحدث استطلاعات الرأي أظهرت أن عدم ثقة الأميركيين، جمهوريين أو ديمقراطيين، بالصين وصلت إلى “أعلى مستوى لها على الإطلاق” لتشمل ثلثي الأميركيين. فهل هي مواجهة مقدسة دفاعا عن الديمقراطية، أم حرب اقتصادية أشعلتها المنافسة على الذكاء الاصطناعي؟
انتهى شهر العسل بين بكين وواشنطن، الانفتاح الذي أطلقه الزعيم الصيني السابق دينغ شياو بينغ عام 1978 سبقته زيارة إلى الولايات المتحدة عام 1977 استمرت 9 أيام، جنت كلا من الصين والولايات المتحدة ثمارها. وفي غفلة عن العالم استمرت 45 عاما انفتحت الصين على العالم الخارجي، واستطاعت أن تصل إلى مرحلة من التطور باتت تنافس فيها الولايات المتحدة التي حفزتها على الانفتاح.
تحولت الصين إلى ورشة أهم ما يميزها اليد العاملة الرخيصة والطاعة العسكرية. العامل الصيني لا يتأفف ولا يدعو إلى إضرابات. وهذا كان سببا كافيا ليقنع أصحاب رؤوس المال لنقل ورشات عملهم إلى الصين.
فوائد العولمة
عشت تلك المرحلة في بريطانيا، وشاهدت قطاعات من الصناعة تغلق ورشها، وخلال سنوات حكم رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر لم يبق من مظاهر الصناعة في البلد الذي بدأ الثورة الصناعية، سوى لقب عاصمة الضباب.

جو بايدن: الولايات المتحدة في منافسة استراتيجية طويلة الأمد مع الصين
اكتشف كبار المستثمرين في الولايات المتحدة وفي بريطانيا فوائد العولمة، وراح السياسيون يروجون لها. قبلت الصين شروط اللعبة. لا بأس في أن نتمسكن إلى أن نتمكن.
تمسكنت الصين. فهل تمكنت بعد مرور أربعة عقود ونيف؟
لنقرأ ما تقوله الأرقام. الصين اليوم تمتلك أكبر احتياطي من العملات الأجنبية، ويصنف الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد عالمي، فيما تعد ثالث بلد من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
في عام 1978 كانت حصة اقتصاد بكين من الاقتصاد العالمي 1.8 في المئة، ارتفع هذا الرقم إلى 18.7 في المئة خلال عام 2017، بحسب معطيات صندوق النقد الدولي.
وللدلالة على الرخاء، يقارن الخبراء أعداد الصينيين الذين سافروا قبل الانفتاح، وبعده، حيث شهدت الفترة بين عامي 1949 و1978، أي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية وحتى إعلان الانفتاح على الخارج، سفر 200 ألف صيني إلى خارج البلاد، فيما سافر خلال عام 2018 وحده 130 مليون صيني إلى مختلف دول العالم.
في عام 2016 قمت بزيارة هي الأولى لي إلى مدينة فينيسيا الإيطالية، ما لفت انتباهي حينها، إضافة إلى سحر المدينة، أنها كادت تخلو من الإيطاليين. المدينة التي اشتهرت يوما بأنها أهم الموانئ المتوسطية وبتجارة الحرير الصيني، امتلأت بالزوار الصينيين، الذين يحتلون أفخم الفنادق والمطاعم.
لماذا إذا انتهى شهر العسل الطويل بين واشنطن وبكين؟
البعض حاول أن يعزو ذلك لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان، ويقول إن الصين تنتهك الحريات. وهذا مردود عليه؛ على مدى أربعة عقود كانت الحريات منتهكة في الصين، ولم تصدر احتجاجات ذات قيمة عن الحكومات الغربية.
التفسير الثاني، أن الصين تشكل خطرا أمنيا يهدد الحضارة الغربية. لم تكف الصين يوما عن تطوير قدراتها العسكرية بما فيها النووية، ورغم ذلك لم يشعر الغرب بهذا الخطر كما بات يروج له الآن.
لاعب أساسي
ما الذي تغير إذا؟ إذا أردنا أن نعرف الجواب علينا أن نفتش عن التكنولوجيا.
ينظر إلى الصين اليوم على أنها تمثل منافسا تكنولوجيا قويا، ويخشى من أن تعيد تشكيل النظام العالمي خدمة لمصالحها الاستراتيجية.
هذه المخاوف عبر عنها إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق ورئيس مجلس إدارة غوغل ألفابت، رئيس لجنة الأمن القومي الأميركي للذكاء الاصطناعي.
شميدت اعتبر أن الذكاء الاصطناعي وغيره من التكنولوجيات الناشئة “أمر محوري في الجهود التي تبذلها الصين لتوسيع نفوذها العالمي، وتجاوز القوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، وتأمين الاستقرار المحلي”. وأكد أن بكين “تعمل على تنفيذ خطة منهجية موجهة مركزيًا لاستخلاص المعلومات حول الذكاء الاصطناعي من الخارج من خلال التجسس وتوظيف المواهب ونقل التكنولوجيا والاستثمارات”.
سمح الغرب للصين أن تتحول إلى ورشة لإنتاج بضائع الثورة الصناعية الثالثة. وتساهل معها أيضا في بدايات الثورة الرقمية، وحرص في نفس الوقت على حجب الصناعات الدقيقة عنها. إلا أن الصين استطاعت أن تخرق هذه الحجب، وبرزت فجأة كلاعب أساسي.

إريك شميدت: الذكاء الاصطناعي سيعيد تنظيم العالم ويغيّر التاريخ البشري
مع بداية ثورة الذكاء الاصطناعي واكتشاف أهمية البيانات بات الأمر مختلفا تماما. قبل خمسة عشر عامًا، أعرب عالم الرياضيات وخبير الأسواق المالية، كلايف هومبي، عن أن “البيانات هي النفط الجديد”. وكان محقا في ذلك.
منذ ذلك الحين وحتى الآن، زاد إجمالي كمية البيانات في العالم 74 مرة. وتجدر الإشارة إلى أنه مع كل تفاعل نقوم به على أساس يومي، نقوم بإنشاء ونقل واستقبال البيانات.
تعمل البيانات على توسيع قدرة الآلات على رؤية العالم وفهمه والتفاعل معه وهي أمور تنمو بسرعة فائقة. وساعد نمو البيانات وسرعة المعالجة في تحقيق الذكاء الاصطناعي أعلى معدل نمو في التاريخ.
بدءا من فهرسة البيانات إلى الفهم والتحليل، يوفر الذكاء الاصطناعي فرصًا جديدة ومثيرة لإدارة كميات كبيرة من المعلومات.
في السنوات الأخيرة، قادت الخوارزميات التطور على مستوى العالم، وتولد عنها مجموعة من الابتكارات التكنولوجية شكلت البيئة الرقمية للثورة الصناعية الرابعة.
بدأ العالم يدرك مدى عمق ثورة الذكاء الاصطناعي، الذي ستساهم تقنياته لاحقا في حدوث موجات من التقدم في البنية التحتية الأساسية والتجارة والنقل والصحة والتعليم والأسواق المالية وإنتاج الأغذية والاستدامة البيئية. من شأن النجاح في اعتماد الذكاء الاصطناعي أن “يدفع الاقتصادات إلى الأمام، ويعيد تشكيل المجتمعات ويحدد البلدان التي ستضع القواعد للقرن القادم” كما يقول شميدت، الذي كان موفقا في الإشارة إلى أن ثورة الذكاء الاصطناعي تزامنت مع لحظة ضعف استراتيجي للولايات المتحدة.
رغم ذلك يحاول شميدت أن يحجب الشمس بالغربال. عندما يعزو القلق الذي يثيره استخدام الصين للذكاء الاصطناعي في المجتمعات التي “تقدر الحرية الفردية وحقوق الإنسان”، لتوظيف بكين لهذه التقنيات كأداة “للقمع والمراقبة والرقابة الاجتماعية”.
يرى شميدت أن المشاريع الضخمة المتعلقة بالبنية التحتية الرقمية التي تمولها الصين في جميع أنحاء العالم “تسعى إلى وضع معايير عالمية تعكس القيم الاستبدادية. ويتم استخدام تكنولوجيتها لتمكين الرقابة الاجتماعية وقمع المعارضة”.
ويدعو شميدت حكومة بلاده ومعها “الدول الديمقراطية” إلى ربط التكنولوجيا العملية من الناحية الاقتصادية بالدبلوماسية والمساعدات الخارجية والتعاون الأمني، للتنافس مع ما أسماه “استبدادية الصين الرقمية المصدرة”. مشيرا إلى أن النمو السريع للصين جعل من نموذجها التكنولوجي جذابا للحكومات ومغريا بالنسبة إلى الدول الهشة والدول النامية.
لا يصل شميدت في نصيحته إلى حد الطلب بقطع التعاون بشكل كامل مع بكين، بل يرى ضرورة التعاون معها في مجالات الرعاية الصحية وتغير المناخ. مؤكدا أن وقف التجارة معها لن يكون مجديا.
حرب تجارية

يتفق كثيرون على أن العلاقات الصينية – الأميركية من أهم وأكثر العلاقات الدولية تعقدا وتشابكا في القرن الحادي والعشرين، لأسباب كثيرة؛ اقتصاديا، الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم والصين هي ثاني أكبر اقتصاد، كما أن بكين أصبحت أكبر شريك تجاري لواشنطن منذ عام 2015، وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 520 مليار دولار تقريبا. سياسيا، الصين قوة صاعدة على الساحة الدولية وتتشابك مع الولايات المتحدة في العديد من القضايا الإقليمية والدولية تشابكا لا يمكن تجاوزه.
وقد ظلت الصين واحدة من أهم القضايا المثارة في الحملات الانتخابات الرئاسية الأميركية منذ عقود، حيث يلجأ مرشحو الرئاسة إلى استعمال لغة متشددة تجاه الصين لدغدغة مشاعر الناخب الأميركي. قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، اعتبر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ومسؤولون في إدارته، أن الصين منافس استراتيجي رئيسي وليس شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة.
ومن المؤكد أن هناك زيادة كبيرة في النظرة السلبية للصين منذ أن تولى ترامب منصبه وأشعل الحرب التجارية

جورج بوش الابن: الصين منافس استراتيجي رئيسي وليس شريكا استراتيجيا
في خضم تلك الحرب، قام صحافيان من وول ستريت جورنال، أحدهما في واشنطن “بوب ديفيس”، والآخر في بكين “لينغلينغ وي” بتتبع مراحل وأحداث الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وذلك بحكم قدرتهما على الوصول إلى صناع القرار في واشنطن وبكين.
وفي كتاب صدر لاحقا بعنوان “المواجهة بين القوى العظمى: كيف تهدد المعركة المتبادلة بين ترامب وشي بحرب باردة جديدة؟”، كشف الكاتبان عن مراحل العلاقات الأميركية – الصينية، وكيف ضرب التوتر صميم تلك العلاقات.
يَخلص الكتاب إلى نتيجة مفادها أن الحرب التجارية التي اشتد أُوارها بين الصين والولايات المتحدة لم تبدأ مع الرئيس “ترامب” ولن تنتهي به، حيث إن المراجعة الدقيقة لتاريخ العلاقات بين البلدين تكشف عن سلسلة طويلة من المشاحنات على المستويين السياسي والاقتصادي، وقد شهدت تصعيدًا متزايدا على مدار السنوات الثلاث الماضية.
ما وصل إليه الكتاب أكده لقاء أجرته شبكة فوكس نيوز مع وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، حيث قال ردا على سؤال حول أي الدولتين تشكل خطرا كبيرا على الولايات المتحدة، روسيا أم جمهورية الصين الشعبية؟ إن الصين تشكل أكبر تهديد لبلاده.
قال بومبيو إن “الحزب الشيوعي الصيني يبني قواته المسلحة، وقد تسلل إلى الولايات المتحدة بطرق لا تمتلكها روسيا، واستخدم قوته الاقتصادية، من خلال الشركات المملوكة للدولة والشركات المدعومة، للقضاء على عشرات الآلاف من الوظائف في جميع أنحاء البلاد، وهذا سلوك غير مقبول”.
وقد جادل الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة في “منافسة استراتيجية طويلة الأمد مع الصين”.
ويؤكد شميدت أن بايدن على حق. ومع ذلك، “ليست الولايات المتحدة وحدها المُعرضة للخطر، بل العالم الديمقراطي بأسره، حيث تُشكل ثورة الذكاء الاصطناعي أساس التنافس الحالي بين الديمقراطية والاستبدادية من حيث القِيم. يجب أن نثبت أن الديمقراطيات يمكن أن تنجح في عصر الثورة التكنولوجية”.
في الثالث عشر من يوليو 2021، استضافت لجنة الأمن القومي المعنية بالذكاء الاصطناعي القمة العالمية للتكنولوجيا الناشئة، والتي عرضت ميزة نسبية هامة تتمتع بها الولايات المتحدة وشركاؤها في مختلف أنحاء العالم، هي شبكة واسعة من التحالفات بين “الدول الديمقراطية، والمُتأصلة في القيم المشتركة واحترام سيادة القانون والاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية”.
واعتبر التقرير الصادر عن القمة أن المنافسة العالمية للتكنولوجيا في النهاية منافسة على القِيم “بالتعاون مع الحلفاء والشركاء، يمكننا تعزيز الأطر القائمة واستكشاف أطر جديدة لتشكيل برامج ومعايير وقواعد الغد وضمان تجسيدها لمبادئنا. إن توسيع نطاق قيادتنا العالمية في مجال البحث التكنولوجي والتطوير والحوكمة والمنصات من شأنه أن يضع ديمقراطيات العالم في أفضل وضع لاستغلال الفرص الجديدة والدفاع ضد مواطن الضعف. في الواقع، لا يمكننا وضع معايير لتطوير هذه التكنولوجيا البالغة الأهمية واستخدامها على نحو مسؤول إلا من خلال الاستمرار في قيادة تطورات الذكاء الاصطناعي”.
مواجهات اقتصادية

على نحو مماثل، يُعد مجلس التجارة والتكنولوجيا الذي تم إطلاقه حديثًا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمثابة آلية واعدة لمواءمة أكبر الشركاء التجاريين والاقتصادات في العالم.
النقطة الثانية التي يؤكدها التقرير هي الحاجة إلى هياكل جديدة، مثل المجموعة الرباعية (الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا) لتوسيع نطاق الحوار بشأن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الناشئة وآثارها، من أجل تعزيز التعاون في تطوير المعايير والبنية التحتية للاتصالات والتكنولوجيا الحيوية وسلاسل التوريد. يمكن أن تُشكل المجموعة الرباعية أساسًا للتعاون الأوسع نطاقًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر الحكومة والصناعة.

مايك بومبيو: الصين قضت على عشرات الآلاف من الوظائف في أميركا
وثالثًا، بناء تحالفات إضافية حول الذكاء الاصطناعي ومنصات التكنولوجيا المستقبلية مع الحلفاء والشركاء.
وقد دعت لجنة الأمن القومي المعنية بالذكاء الاصطناعي إلى إنشاء تحالف يتكون من الديمقراطيات المتقدمة لمزامنة السياسات والإجراءات حول الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الناشئة.
وتُشكل الشراكات بين الحكومات والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية ميزة رئيسة “تتمتع بها الولايات المتحدة والعالم الديمقراطي للتغلب على المنافسين. ولكن يتعين على الولايات المتحدة بذل المزيد من الجهود لحشد الحلفاء حول قضية مشتركة. تُبشر هذه الحقبة من المنافسة الاستراتيجية بتغيير عالمنا، ويمكننا إما إحداث التغيير أو الانسياق وراءه”.
ويؤكد شميدت أن الذكاء الاصطناعي سيعيد تنظيم العالم ويغير مجرى التاريخ البشري.
ويختتم التقرير بتقديم خارطة طريق للمجتمع الدولي “الديمقراطي” للفوز في المواجهة مع الصين. داعيا إلى استخدام الهياكل الدولية القائمة – بما في ذلك منظمة حلف شمال الأطلسي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة الدول السبع، والاتحاد الأوروبي – لتعميق الجهود الرامية إلى التصدي لجميع التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الناشئة.
لا تختلف المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة والصين عن كل المواجهات التي أدت إلى إشعال الحروب عبر التاريخ، بدءا من الاقتتال على المراعي والماء، وصولا إلى الذهب الأبيض والأسود، مرورا بالحرير والألماس والتوابل، جميعها كانت مواجهات اقتصادية. لن يفيد الولايات المتحدة حجبها بالغربال.