خيال الموتى المرحين

الفرنسي من أصل روسي قضى الجزء الأكبر من حياته وهو يحاور صور الموتى يتعرّف عليهم ويقدّمهم للآخرين لا باعتبارهم ضحايا ولكنه كان يرى في عدمهم وهم موتى البعد الآخر للحياة.
الاثنين 2021/08/23
ضوء يشع على الراحلين (عمل تجهيزي لكريستيان بولتانسكي)

أخيرا التحق كريستيان بولتانسكي بأحبائه؛ أولئك الموتى القريبين والغرباء الذين تعرّف عليهم بعد موتهم وحاول أن يقيم صلة بهم عن طريق الفن.

الفرنسي من أصل روسي قضى الجزء الأكبر من حياته وهو يحاور صور الموتى. يتعرّف عليهم ويقدّمهم للآخرين لا باعتبارهم ضحايا، ولكنه كان يرى في عدمهم وهم موتى البعد الآخر للحياة.

أية حياة يقصد؟ بالتأكيد إنه يقصد الحياة السرية التي عاشها أبوه اليهودي تحت الأرض خوفا من أن تقبض عليه الشرطة النازية حين كانت باريس تحت الاحتلال.

لم يتحرّر بولتانسكي من ذكرى ذلك الكائن الذي تحوّل إليه أبوه. الجزء الأكبر من حياة ذلك الكائن مرّ قبل أن يولد بولتانسكي (ولد عام 1944). غير أن الحكاية هي التي أحيت عالم الغياب كله في خياله.

هل رواها له أبوه؟ لقد ترعرع بولتانسكي على أخيار المحرقة. فكانت الحكايات الآهلة بالعواطف والذكريات المرحة والحزينة على حد سواء تصطدم به أينما وجه وجهه.

كان يرى الموتى يستعيدون عضويتهم في العائلة. فصار هوسه في ما بعد أن يبحث عن أخبار الموتى في كل مكان. إن لم يكن في فرنسا ففي سويسرا المجاورة.

لكن الموتى هناك يموتون سعداء. يموتون مرتين حسب بولتانسكي؛ مرة في حياتهم العادية ومرة أخرى في خيالهم الذي سُحر به الفنان فصار يتبع أبخرته ليعثر على ينابيعه.

لمَ إذًا يجمع صور الأطفال الموتى؟ إنهم يقفون الآن في استقباله هناك؛ في العالم الذي طالما قدّمه محاطا بهالة ضبابية مستعملا في صناعته المواد التالفة والمهملة، والتي لم تعد صالحة للاستعمال والمعطوبة.

لم يكن عالم الموتى بالنسبة إليه كابوسا. كما أن معارضه لم تكن تسبّب انقباضا نفسيا فهي لا تطرح أفكارا سوداوية متشائمة.

قبل سنة من وفاته نظم له مركز جورج بومبيدو بباريس معرضا استعاديا كبيرا. كان ذلك المعرض أشبه بالقداس المرح على أرواح بشر تنوّعت أسباب موتهم بين الصمت والضجيج، بين الخفة والثقل، بين القدر وسوء الفهم.

لم يكن معرضا عن الموت وإن كان الموت مادته الرئيسة والموتى أبطاله. اليوم صار بولتانسكي نفسه واحدا من أولئك الأبطال. سنتذكّره من خلال خياله وهو ميت.

 
16