عبدالمؤمن ولد قدور خائن وفاسد أم ضحية صراع سياسي في الجزائر؟

حين اشتدت القبضة الحديدية بين الرئاسة وجهاز الاستخبارات خلال سنوات خلت في الجزائر، كان عبدالمؤمن ولد قدور، أحد أوجه ذلك الصراع، فقد نصّبه بوتفليقة على رأس شركة نفطية جزائرية أميركية، استحدثتها الحكومة في مطلع الألفية، ولما حامت حولها الشكوك والشبهات تمّ حلها وسجن الرجل بإيعاز من جهاز الاستخبارات، لكن انتهاء القبضة لصالح الرئاسة أعاد الرجل إلى الواجهة، فقد أخرج من السجن وأسندت له شركة سوناطراك بعد سنوات كترقية ورد اعتبار، لكن دوام الحال من المحال، فقد فرّ بجلده، وها هو يسجن من جديد.
ولأن اللوبي الذي يدعمه بعيد عن السلطة ومراكز القرار، فإن توقيف وسجن المدير السابق لشركة سوناطراك النفطية المملوكة للقطاع الحكومي، سيكون فاتحة مرحلة جديدة من الكشف عن ممارسات رموز الفساد، فالشركة التي تعيل البلاد بنحو 95 في المئة من عائداتها، تبقى إحدى بؤر الفساد وتبديد المال العام، ولا يستبعد أن تطيح برؤوس أخرى.
خيوط متشابكة
بين محاربة الفساد وتصفية الحسابات السياسية خيط رفيع، في ظل الانتقائية المطبقة والأحكام المتفاوتة، ففيما يقضي مقربون من بوتفليقة في الحكومة والجيش وعالم الأعمال عقوباتهم في السجن، لا يزال آخرون خارج المساءلة، وحتى القضاء الذي حكم بعشرين عاما سجنا نافذا في حق وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار، هو نفسه الذي برّأه وأفرغ له مذكرة التوقيف الدولية، ولم يقض ولو دقيقة واحدة في السجن.
هذه المرة أمر القضاء بإيداع ولد قدور الحبس المؤقت في انتظار استيفاء التحقيقات المفتوحة ضده والمتصلة بقضاء فساد مالي وسوء تسيير وإبرام صفقات غير شرعية، أثناء إدارته للشركة في السنوات الماضية، وهي العملية التي باشرتها السلطة القضائية سريعا، عكس بعض الملفات الأخرى التي يقضي أصحابها شهورا في السجن المؤقت دون برمجة قضاياهم.
وبرزت مظاهر استعراض القوة السياسية خلال إيفاد رئاسة الجمهورية أحد موظفي مديرية الإعلام للإشراف على عملية إحضار الرجل من الخارج، لكن الصور التي بثتها شاشات الإعلام الحكومي والخاص لولد قدور في مطار الجزائر الدولي، أثارت حالة من الاستياء والغضب لدى الرأي العام، الذي استهجن تصرف السلطة المختصة على اعتبار أن التشريعات تضمن للمتهم كرامته.
وظهر الرجل مقيّد اليدين وعناصر أمنية تحيط به من كل جانب وبهندام مشوش، كما تم أخذ صور له قيل عنها إنها قضائية، بينما كان الرجل في حالة من الدهشة والحزن الممزوج بالدموع.
انهيار أحجار الدومينو
بدأت مسيرة ولد قدور الذي يعد واحدا من الكوادر المقربة من منظومة بوتفليقة بإدارة الشركة الجزائرية الأميركية "بي.أر.سي"، قبل أن يتم حلّها بسبب الشبهات التي حامت حول تسييرها والصفقات التي أبرمتها مع شركات أجنبية، فضلا عن توظيفها كغطاء في نشاط تجسسي تورط فيه الرجل رفقة ضباط عسكريين.
وتوبع حينها من طرف القضاء بتهمة التجسس لصالح جهات خارجية، وحكم عليه بثلاث سنوات سجنا، غير أنه لم يكمل عقوبته وتم إطلاق سراحه بإيعاز من أعلى هرم السلطة آنذاك ومن وزير النفط السابق الفار شكيب خليل.
ولأن المسألة كانت تتعدى حدود المناصب السيادية وأهمية قطاع النفط، فإن ميلان الكفة في الصراع بين الرئاسة والاستخبارات لصالح جناح بوتفليقة، أعاد ولد قدور إلى الواجهة كأداة للتحدي وإعلان الانتصار، حيث تم تسميته العام 2017 كمدير عام لشركة سوناطراك، وهو القرار الذي أعاد له الاعتبار، وكرّس حينها هيمنة جناح الرئيس الأسبق على دواليب السلطة.
لكن مع تهاوي جناح الرئيس الأسبق غداة اندلاع احتجاجات الحراك الشعبي في فبراير 2019، وتصدر القيادة السابقة للجيش للواجهة السياسية خلال حقبة الفراغ المؤسساتي، بقيادة الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، كان ولد قدور من الرؤوس التي سقطت سريعا، لكنه تمكن من الفرار قبل إلقاء القبض عليه في إطار الحملة المفتوحة على الفساد.
القضاء الجزائري الذي حكم بعشرين عاما سجنا نافذا في حق وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار، هو نفسه الذي برأه وأفرغ له مذكرة التوقيف الدولية، فلم يقض ولو دقيقة واحدة في السجن.
وظل يقيم منذ ذلك الوقت في فرنسا، قبل أن يدعى من طرف مؤسسة عمانية لإلقاء محاضرة في اختصاصه العام الجاري، ولدى مروره في رحلته بدبي الإماراتية تم توقيفه هناك بسبب مذكرة التوقيف الدولية، حيث وضع تحت النظر إلى غاية النظر في شروط التسليم.
وكانت الجزائر قد أصدرت عدة مذكرات توقيف دولية تتعلق بمسؤولين سابقين ضالعين في الفساد على غرار وزير الصناعة السابق عبدالسلام بوشوارب، المتواجد في الأراضي اللبنانية، فضلا عن ضباط سامين من المؤسسة العسكرية، كما هو الشأن لقائد جهاز الدرك الجنرال الغالي بلقصير.
ويتابع ولد قدور بشبهات فساد مالي وسوء تسيير وإبرام صفقات غير شرعية أثناء إدارته للشركة في السنوات الماضية، وهي التي أنزلت دموع الرجل أمام قاضي التحقيق خلال الجلسة الأولى، فهي إلى جانب أنها تؤدي إلى عقوبات ثقيلة، فإن الذي أبكاه بجد هي لعبة التوازنات السياسية داخل السلطة، التي أزاحت تيار بوتفليقة تماما من المشهد، وهو الذي كان يمثل الأب الروحي لكل الكوادر القادمة من بلدة ندرومة التي ينحدر منها الرئيس المذكور.
وذكر ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي أن الصور والتقارير المنقولة عن توقيف ولد قدور أظهرت "سلوكيات مضرة بسمعة الدولة والمؤسسات بعد تسجيل تلك الإهانة والدوس على كرامة إنسان لا زال بريئا في نظر القانون حتى تثبت إدانته، وأن القضاء هو الذي يفصل بشأنه". وذكر الأمين العام لنقابة القضاة يسعد مبروك في تدوينة له على حسابه الخاص بفيسبوك أن "قرينة البراءة تتهاوى أمام الشعبوية المدمرة وإعلام فضائحي غايته التشهير.. كل مشتبه به أو متهم يبقى بريئا إلى غاية إدانته بحكم ما، مهما كان الجرم المنسوب إليه".
لغز أوغستا
تبقى صفقة مصفاة "أوغستا" الإيطالية المستعملة، والتي أبرمها الرجل مع الشركة المالكة "إكسون موبيل" الأميركية، من أجل تصفية وتمييع الغاز الجزائري، أثقل ملف في حقيبة الرجل على اعتبار أن قيمتها كبدت الشركة نحو مليار دولار. ولا يستبعد مراقبون أن يجر توقيفه أسماء نافذة أخرى في عدد من المؤسسات، على اعتبار أن خيوط الفساد في الجزائر متشابكة ومتداخلة بين دوائر ولوبيات النفوذ.
فقد كانت احتفالية الذكرى الخمسين لتأميم المحروقات بالجزائر المنتظمة العام الماضي، بمثابة بداية متاعب ولد قدور، حينما أعلن رئيس الوزراء السابق عبدالعزيز جراد، عن فتح تحقيق في قضية مصفاة "أوغستا" وعن شروع القضاء في التحقيق وإصدار أمر بالتوقيف الدولي ضد المتهم الرئيسي في الوقائع.
وتعود أطوار الصفقة إلى العام 2018، حين أعلنت سوناطراك الاستحواذ عليها بكلفة قاربت 800 مليون دولار، من أجل تكرير الغاز الجزائري في إيطاليا، إلا أن الدوائر المختصة اعتبرت السعر مبالغ فيه نظراً إلى الحالة الكارثية التي تتواجد عليها المصفاة التي شُيّدت في خمسينات القرن الماضي، ولم يجد لها مالكها الأميركي زبونا منذ عرضها للبيع سنة 2015. بينما دافع ولد قدور آنذاك عن الصفقة بالقول إنه "سعر رائع"، وأن "طاقة المصفاة الإنتاجية التي تبلغ 10 ملايين طن سنويا، ستجعلها ثاني أكبر مصفاة يملكها المجمع النفطي، وستخفف حجم كلفة واردات الجزائر من المحروقات، لاسيما وأن سوناطراك لم تعد تتحمل كلفة ملياري دولار واردات سنوية من البترول المكرر، خاصة مع الانخفاض الكبير الذي عرفته أسعار النفط، ولأن بناء مصفاة يستغرق من 5 إلى 10 سنوات بتكلفة تبلغ في حدها الأدنى 5 مليارات دولار، أما مصفاة أوغستا فقد كلّفتنا أقل من خمس ذلك المبلغ".
سوناطراك التي تعيل البلاد بنحو 95 في المئة من عائداتها، تبقى إحدى أكبر بؤر الفساد وتبديد المال العام، ولا يستبعد أن تطيح برؤوس أخرى، وعلى رأسها الوزير السابق للطاقة شكيب خليل، الفار بدوره إلى الولايات المتحدة
وبعد عام من شرائها، اقترضت سوناطراك 250 مليون دولار من الشركة العربية للاستثمارات البترولية "أبيكورب" لتمويل عمليات صيانتها، بيد أن المصفاة لم تكن في الواقع بحاجة إلى صيانة، بل إلى إعادة بناء، لكون تجهيزاتها القديمة تكرر الخام السعودي الثقيل الذي تشتريه "إكسون موبيل" من أرامكو السعودية، ولا تصلح لتكرير الخام الجزائري الخفيف، مما عطّل دخول المصفاة الإيطالية بعد سنتين إلى الخدمة، ورفع تكلفة المنشأة إلى مليار دولار، الأمر الذي أثار عليه الرأي العام الجزائري ضجة.
وكانت وسائل الإعلام الجزائرية، قد تحدثت منذ بروز قضية شركة "بي.أر.سي" المختلطة قبل العام 2006، عن ارتباط شركة النفط الحكومية بشبكة فساد مالي واسعة ومعقدة، ضمت عددا من شخصيات البلاد، وكشفت القضية التي أتت في نسخ متتابعة عدة وجوه بارزة في السلطة، ومنهم سياسيون ومسؤولون سامون في الدولة، تلقوا رشاوى وعمولات بملايين الدولارات مقابل صفقات ضخمة بين سوناطراك وشركات عالمية.
وأدانت المحكمة الجزائرية في فبراير 2016 المتهمين بأحكام متفاوتة تراوحت بين البراءة والسجن ست سنوات مع غرامات مالية على البعض، فيما أسقطت التهمة عن وزير الطاقة لما قيل إنه أخطأ في الإجراءات، لكن سقوط ولد قدور، قد يجر خليل مجددا، ولو أن جلبه هو التحدي الأكبر للحكومة الجزائرية.