بعيداً عن الأصولية

يصحّ أن يؤخذ الذي حدث في تونس معادلاً موضوعياً لما جرى في مصر، بعد تظاهرات الملايين الكثيرة يوم الـ30 من يونيو 2013. الفارق أن الناس هناك سبقت الدولة، في الإعلان عن عدم احتمالها، استمرار التأثير الأصولي في الشأن العام في بلادها، وقت أن طرح الإخوان أنفسهم نخبة منزهة، وفوق المساءلة بشفاعة الدين.أما في تونس فإن الرئاسة سبقت الناس، ربما من موقع الإدراك لشواغل الناس وقلقهم. والغريب أن من يتجاوزن القانون وينصبّون أنفسهم أوصياء على الإيمان لا يراجعون سلوكهم، حتى ولو قام على رأسهم رجل محنك يعرف كيف يناور ويخفي مقاصده. فذاك الرجل، في تونس، أنموذج مختلف عن مترئّسي الإخوان في المشرق العربي. الأخيرون قطبيون، تشبعوا بتعاليم رجل كان مستحدث الديانة والأيديولوجيا، وصاغ أطروحاته، بمنهجية التفريق بين الناس، على النحو الذي يجعل غالبية المجتمع جاهلية ومعطوبة الديانة. ومن خلال دراسة هذه الظاهرة، بموضوعية، نكتشف أن تلك المنهجية تأثرت بتجربة سيد قطب، في العمل كمحرر لمجلة المحفل الماسوني “التاج المصري” ومعلوم أن الماسونيين يصنفون أنفسهم في درجات. غير أنهم جميعاً يرون أنهم فوق سائر البشر مهما فعلوا، وكانوا كلما انكشفت بينهم واقعة فساد، يندهشون، وهذا بسبب اغترابهم عن المجتمع من حيث تفصيلات حياته ومعاناته وأوضاعه العامة، بما يشبه فقدان الذاكرة وكأن مرض الزهايمر يفتك مبكراً بأعضائهم، حتى بمن هم دون الخمسين. ويكون هناك انصراف تام عن الواقع بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستخدام المواعظ المرسلة، وحديث المظلوميات، والمماهاة بينهم وبين الدين نفسه، وسائل للرواج في أوساط البسطاء، يُمارس بها تأثيم الحكم المدني والدولة التي تقوم نظريتها على المساواة في المواطنة.
في محاذاة هذه الدهشة، تنتظم عدة سلالات من الطائعين، ومن جندرمة التنظيم والخطابة، ومفوّهي التدجين والمبايعة، في سياق واحد متسق، ومضاد لحراك الشعب كله، الذي يتوخى الخبز والحرية والعدالة.
ليس أجمل من حياة الناس على الفطرة الدينية. فقد حملتني أسباب عائلية، إلى المشاركة في مجلس عزاء لراحل عزيز، في محافظة الشرقية في الريف المصري. فالترابط العائلي هناك لا تفسده أيّ سجالات فقهية، من النوع الذي يلازم حضور جماعة الإخوان في أي مكان. فأجواء القرية تتسم بالوداد الاجتماعي والتضامن، ولم تشهد طوال حياتها تهديداً للوئام إلا في الفترة التي علا فيها شأن الجماعة، التي تدخلت حتى في صيغة مجلس العزاء نفسه، ومنعت التلاوة، وقررت حُرمتها في المجلس، بذريعة أن القرآن الكريم مخصص للأحياء وليس للأموات. وكأن الأموات هم الذين يستمعون إلى المقرئ!
في مجالس العزاء في القرى تُقدم صواني العشاء من البيوت الميسورة وكنا في مجلس العزاء نتأمل السمات العامة فيه. فلم يتوقف منذ الظهيرة تقاطر المعزين. ومع كل جمع من الناس كان الموجودون ينصتون إلى التلاوة، ولا إشعال لسيجارة واحدة، ولا دردشة إلا بعد أن تتوقف التلاوة. وإن استطالت السورة الكريمة، يفسح المقرئ للموجودين مجالاً للانصراف بـ”صدق الله العظيم” بلا تجويد، لكي يدخل غيرهم. وكان من بين ما أوقفه السلفيون من التقاليد، حضور المقرئ، متأثرين بالوهابية!
لقد أدهشني أن لا تأثير لكورونا هناك. فمن يضع كمامة، طارئ على البيئة، ولم يُعرف أن مواطناً قضى بفعل الوباء. فلكل وفاة أسبابها التي يُصار إلى التعريف بها، وعدم إلصاقها بالوباء. فالحاج غانم، ابن العم الراحل، كان يعاني منذ فترة، من مرض في الكبد، كان سبباً لوفاته.