مصر تختار الإنحناء في مواجهة أول عاصفة حقوقية لإدارة جو بايدن

أفرجت السلطات المصرية عن نشطاء بارزين في المجتمع المدني على وقع ضغوط أميركية متجددة تطالب القاهرة بضرورة تخفيف قيودها على الحريات ووقف سياسة الاعتقالات وتكميم الأفواه.
القاهرة- باتت قواعد اللعبة مكشوفة بين مصر والولايات المتحدة في المقايضة الضمنية بين حقوق الإنسان والمصالح الاستراتيجية المشتركة، فالقاهرة تبدو متفهمة لجدية إدارة جو بايدن في القضية الأولى وتدرك معاني الصمت ودلالات الحديث عنها، وواشنطن تعلم أهمية المصالح في وقت تواجه فيه مصر تحديات إقليمية دقيقة.
وأصبحت جميع الأوراق موضوعة على الطاولة بعد انتقاد وزارة الخارجية الأميركية الخميس لمحاكمة الناشط الحقوقي حسام بهجت، وفي اليوم التالي (الجمعة) أصدرت خطابا لجميع السفارات في العالم أكدت فيه أهمية مراقبة ملف حقوق الإنسان والتطور الديمقراطي، وهو ما جعل الأضواء تتجه نحو دول عديدة من بينها مصر التي بات ملفها الحقوقي محل انتقادات قاسية من جهات غربية مختلفة.
وفهمت القاهرة من هاتين الرسالتين أن الملف عاد إلى مركز اهتمام الإدارة الأميركية، ولذلك يربط المراقبون بين رسائل واشنطن حوله وبين إعلان نيابة أمن الدولة العليا بمصر مساء السبت الإفراج عن ثلاثة من النشطاء المدنيين.

مارغريت عازر: مصر تحاول تحسين سجلها الحقوقي والتعامل بإيجابية مع الملف
وقررت النيابة إخلاء سبيل كل من إسراء عبدالفتاح المحبوسة احتياطيا بتهمة نشر أخبار كاذبة، وعبدالناصر إسماعيل القيادي في حزب التحالف الشعبي (يسار) بتهمة “مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها”، والصحافي جمال الجمل الذي ألقي عليه القبض في مطار القاهرة عقب عودته من تركيا مؤخرا. وحذرت واشنطن القاهرة الخميس من استهداف الناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان، ومن أن الأمر سيؤخذ في الاعتبار في أثناء المشاورات حول بيع أسلحة للقاهرة.
ويمكن للحكومة المصرية أن تختلف مع الإدارة الأميركية في بعض القضايا الإقليمية وتصل معها إلى صيغ مرضية وتناور بما لديها من علاقات دولية متباينة، لكنها تنحني عند ممارسة واشنطن ضغوطا عليها في ملف حقوق الإنسان.
ويحتل هذا الملف أولوية كبيرة لدى إدارة جو بايدن ولا يعني انخفاض الصوت مؤخرا تجاهله، فهو من القيم الأساسية في رؤية الحزب الديمقراطي الحاكم، ما يضع القاهرة أمام الاختيار بين الإصرار على مواصلة نهجها وما يحمله من انتقادات قد تصل إلى مستوى التهديد بفرض عقوبات، وبين الإيحاء بالتجاوب من وقت إلى آخر.
ولا تريد الإدارة الأميركية ممارسة ضغوط كبيرة على مصر، لكنها لا تريد منها أيضا التغافل عن تحذيراتها، فإذا كان الضغط القاسي يؤدي إلى صدام ويدخل المصالح المشتركة في مربع غير مطلوب من الجانبين، فالتجاوب الطفيف يمكن أن يرفع الحرج عن إدارة بايدن الحريصة على التمايز بينها وبين إدارة دونالد ترامب السابقة التي تخلت عن الملف الحقوقي في علاقتها بالقاهرة.
وتدرك الحكومة المصرية ما تريده واشنطن في الوقت الحالي، وتتفهم مقاطع كثيرة في التصريحات الحادة التي أطلقتها الخارجية الأميركية بشأن القضايا الحقوقية، لذلك جاءت استجابتها سريعة كي تطمئن إدارة بايدن، ولا يبدو الرجل متقاعسا معها أمام حملات الضغط التي تمارسها منظمات حقوقية عديدة.
وتحاول مصر الخروج من المأزق بطريقة سلسة ولا تبدو خطواتها في مجال الإفراجات كأنها استجابة لشروط أميركية فورية، فقد جرى إخلاء سبيل الكثير من النشطاء المصريين على فترات في وقت لم ترفع واشنطن صوتها عاليا في مجال التحذير.

طارق زغلول: الإفراج عن بعض المعتقلين يجري وفقا لرؤية خاصة بالدولة
وجاء الإفراج عن إسراء وعبدالناصر والجمل قبل أيام قليلة من عيد الأضحى الذي اعتاد فيه رئيس الجمهورية العفو عن العديد من السجناء كي تبدو هذه الخطوة بعيدة عن تصريحات واشنطن في الفضاء الحقوقي والحد من مضامينها السياسية.
ويقول متابعون إن استمرار حبس بعض الناشطين السياسيين لا يدل على مخاوف من تحركاتهم في الشارع أو يعبر عن خشية من قوتهم بعد قصقصة الأجنحة التي مكنتهم من الضغط على نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك وأجبرته على التنحي، غير أنه يدل على الاحتفاظ بعدد منهم إلى يوم ربما تضطر واشنطن لممارسة ضغوط على القاهرة فيأتي الإفراج كنوع من الاستجابة لها وتتحقق أهدافها الرمزية.
وتكمن النقطة الخطيرة في توجهات إدارة بايدن في عدم استبعاد اقترابها من ملف الإخوان المسكوت عنه نسبيا حتى الآن، فهناك المئات منهم قيد محاكمات متباينة بتهم إرهاب وعنف ولا علاقة لها بحقوق الإنسان، وهو ما ترفض الاقتناع به منظمات حقوقية أميركية وتحاول جذب واشنطن كثيرا إلى هذه الزاوية.
وقال الأمين العام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان طارق زغلول إن الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين يجري وفقًا لرؤية خاصة بالدولة، وشهدت الأشهر الماضية الإفراج عن عدد من الصحافيين وقبلها كانت هناك إفراجات عن سياسيين، وقد لا يكون الإفراج عن إسراء وعبدالناصر والجمل له علاقة ببيان الخارجية الأميركية.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن القاهرة تستهدف الارتقاء بملفها الحقوقي على المستوى الدولي، فمثل هذه القرارات يجري الاعتماد عليها في أثناء المناقشة الدورية للحالة المصرية أمام مجلس حقوق الإنسان العالمي، وتحظى دائما بترحيب العديد من الدول التي تعتبر خطوات الإفراج عن المسجونين دلالة على أن هناك تطورات إيجابية في الأوضاع الحقوقية.
وسبق بيان الخارجية الأميركية بيانات أخرى ارتبطت بحقوقيين آخرين، سواء أكان ذلك من جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وتكون غالبا نتيجة وصول معلومات بإحالة أشخاص لديهم شهرة حقوقية واسعة إلى محاكمات تراها منظمات حقوقية غير عادلة، وهو ما يجري التعامل معه عبر وحدة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية المصرية التي تصدر بيانات ترد على الانتقادات الموجهة للدولة.
ملف حقوق الإنسان يحتل أولوية كبيرة لدى إدارة جو بايدن ولا يعني انخفاض الصوت مؤخرا تجاهله، فهو من القيم الأساسية في رؤية الحزب الديمقراطي الحاكم
وأكدت وكيلة لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان المصري سابقًا مارغريت عازر أن الإفراج عن نشطاء يأتي بعد نقاشات مع المحتجزجين وتسعى الحكومة لمنحهم فرصة أخرى للاندماج في المجتمع، وترى أن الفترة التي قضوها داخل السجن مناسبة للأخطاء التي قاموا بارتكابها.
وأوضحت في تصريح لـ”العرب” أن مصر تحاول تحسين سجلها الحقوقي والتعامل مع هذا الملف بوجهة نظر تقوم على التجاوب مع أي انتقادات موجهة إليها من الخارج، وتعمل على تدشين مصالحات مع أشخاص يعترفون بالنظام السياسي القائم ولا يرفضونه من حيث المبدأ.
وترى جهات معنية بملف حقوق الإنسان في القاهرة أن التجاوب السريع مع الانتقادات قد يأتي بنتائج أفضل من التأكيد على أن كل شيء على ما يرام دون الاعتراف بالأخطاء، وأن انفتاح الدولة على قوى إقليمية عديدة وحاجتها لإقامة علاقات قوية مع أطراف دولية مهمة في مقدمتها الولايات المتحدة يدفع لاتخاذ قرارات تؤدي إلى التفاهم.