اضطرابات ما بعد الصدمة رحلة قتال أخرى للجنود الفرنسيين العائدين من الساحل

عدد الجنود الفرنسيين العائدين من منطقة الساحل والذين يعانون إصابات نفسية بين العامَين 2010 و2019 بلغ نحو 2800.
الثلاثاء 2021/07/13
جروح غير مرئية

باريس- كاد كريستوف أن يلقى حتفه وعانى رفاييل موجة من العنف الدامي في منطقة الساحل بعد مشاهدته أكياس الجثث بالعشرات، ولم يعد عمر يريد التحدث عن تجاربه في ساحة القتال. فترسّخ الألم على مر السنوات.

ويعاني عمر (35 عاما) وهو جندي سابق في البحرية الفرنسي اضطراب ما بعد الصدمة منذ عقد. وخلاله، انفصل عن شريكته ودخل المستشفى بشكل متكرر وحصل على علاجات قوية. ويقول عمر الذي ولد في المكسيك ووصل إلى فرنسا مراهقا “كل ذلك يكفي لأن تطلق النار على نفسك”.

وتخلّلت عملية إعادة تأهيله الطويلة دورات رياضية مخصصة للجرحى. لكن “يحصل انهيار نفسي كبير عندما يتوقف ذلك”. ولا يزال هذا العنصر السابق في القوات الخاصة متكتما بشأن الأسباب التي كانت وراء ألمه لكنه يستحضر فترة مضنية في العام 2012، حيث انخرط في سلسلة من أعمال “العنف الحي”. لكنه لا يقول شيئا عن الفترة التي أمضاها في أفغانستان.

وبالنسبة إلى يوسف (44 عاما) العميل السابق في مديرية الاستخبارات العسكرية، تسببت الصدمة الناتجة عن الكثير من العمليات الدقيقة والحساسة في ظهور “العنف والخوف” لديه. ويوضح “إذا تكلّم أحدهم بشكل سيّء معك، يفور غضبك.. تنمو فيك قوة شريرة، وتتخلى عنك أسرتك والناس لا يفهمون تماما”.

ويروي يوسف وهو ابن جندي “ذات يوم، بعد عودتي من مهمة، كنت أعاني صداعا نصفيا قويا. أرسلتني ممرضة إلى المستشفى العسكري. كانت شرايين صغيرة في عينّي تتمزّق، وأخبروني بأن ذلك يحصل بسبب الإجهاد. أرسلوني إلى طبيب نفسي، لم أفهم لماذا. فكنت أعتبر أنه مخصص للمجانين”.

إعادة تأهيل الجنود العائدين من منطقة الساحل في دورات رياضية مخصصة
إعادة تأهيل الجنود العائدين من منطقة الساحل في دورات رياضية مخصصة

وبلغ عدد الجنود الفرنسيين الذين يعانون إصابات نفسية بين العامَين 2010 و2019، نحو 2800، أي خمس مرات عدد المصابين جسديا. وفي صفوف سلاح البر وحده، يعاني 70 في المئة من بين ألف جريح في إجازة مرضية طويلة الأمد، متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة.

وبالنسبة إلى عمر ويوسف فإن المسار الطويل للرعاية الطبية وإعادة التأهيل من خلال الرياضة والجلسات مع الطبيب النفسي، لم يؤثرا كثيرا.

وبحثا عن بلسمة أفضل لهذه الجروح غير المرئية، تختبر الجيوش الفرنسية حاليا أسلوبا جديدا طبق بنجاح في كندا وإسرائيل والولايات المتحدة: المبدأ هو تقديم مواكبة “نفسية -اجتماعية” للمصابين من أجل إعادة تعليمهم، خطوة بخطوة، إدارة حياتهم اليومية ووضع خطط للمستقبل. ويقول الجنرال باتريس كيفيلي مدير المشروع “كان هناك حلقة مفقودة” بعد الخروج من المستشفى.

وفي جنوب فرنسا، يستقبل مبنى “ميزون آتوس” (دار آثوس)، قرابة 15 جنديا سابقا تضرروا بشدة بسبب رؤيتهم الموت عن قرب. وعلى جدار في غرفة الجلوس، جدول الأسبوع: النشاطات الرياضية والوجبات المشتركة والرسم والحرف اليدوية وورشة إعادة توجيه مهني.

الاضطراب العصبي الناجم عن الحرب مرض قديم، لكن معالجته احتاجت إلى وقت طويل لتبدأ

يقول لوك دو كوليني الذي كان جنديا سابقا في القوات البحرية ويدير “ميزون آتوس” في تولون (جنوب) “يخفف الجرحى من روع بعضهم البعض”. وهناك نموذج مماثل في محيط بوردو (جنوب غرب). وهنا، لا مراييل بيضاء أو أزياء موحدة، فقط مدرّب رياضي وممرضة وطبيبة نفسية عسكرية سابقة لمتابعة المصابين، وجميعهم متطوعون لهذه المبادرة.

واستلهمت الجيوش الفرنسية من “كلوبهاوس”، وهي دور غير طبية أنشئت العام 1948 في الولايات المتحدة من أجل توفير نشاطات للأشخاص الذين يعانون مشكلات نفسية (اكتئاب، فصام..) بهدف كسر عزلتهم وجعلهم يتأقلمون مع الحياة اليومية.

ويوضح الطبيب كزافييه ديرويل المستشار الصحي لرئيس أركان القوات البرية “أن ذلك يستجيب لحاجة أكدها أطباؤنا النفسيون. نحن نطمح لأمور أخرى غير العمل العلاجي للجرحى” الذين يجب أن “يتعلموا التعامل مع الحياة اليومية فيما يميلون إلى الانغلاق على أنفسهم”.

ولدى وصولهم، يوقّع الجنود “خريطة طريق” تجمع “مشروع الحياة” و”استئناف النشاط”. وهم يملكون الحرية في المجيء عندما يرغبون، ليوم واحد أو أكثر. وفي هذا المكان، تعافى عمر. ويقول “نحن محاطون برفاق خاضوا التجربة نفسها، نحن نفهم بعضنا البعض. لقد اجتزت المرحلة المؤلمة من التجربة التي عشتها”. منذ وصوله، انكب الجندي السابق على ممارسة الرياضة وفقد وزنا وعادت الابتسامة إلى وجهه. وهو يستعد حاليا لطي الصفحة العسكرية إلى الأبد مع انخراطه في دورة تخصصية في التكييف.

ويعرب يوسف عن “توقه إلى الشفاء”. هو يفكر في التحول إلى “المساحات الخضراء” ويضيف “لم أستطع العمل في مكتب واستخدام الكمبيوتر”.

وتقف وراء هذا الألم المتجذّر الذي يتسبب في نوبات قلق وغضب ويقظة وأرق واكتئاب واضطرابات جسدية ونفسية، مواجهة طاحنة مع الموت تنتج خللا في الدماغ وتسبب تلفا يمنع قشرته ولوزته من التواصل، كما يوضح الكولونيل أنطوان بروليه قائد وحدة إعانة الجرحى.

لدى وصولهم يوقّع الجنود "خريطة طريق" تجمع "مشروع الحياة" و"استئناف النشاط"
لدى وصولهم يوقّع الجنود "خريطة طريق" تجمع "مشروع الحياة" و"استئناف النشاط"

والاضطراب العصبي الناجم عن الحرب مرض قديم، لكن معالجته احتاجت إلى وقت طويل لتبدأ. ومع الحرب العظمى (1914-1918)، واجهت الجيوش الحديثة للمرة الأولى مشكلة “الخسائر النفسية”: جنود سالمون جسديا لكنهم غير قادرين على القتال، ما ترك العلماء في حيرة.

واعتبرت هذه “الإصابات الغريبة” لفترة طويلة جُبنا. في العام 1943، صفع الجنرال الأميركي جورج باتون جنديين من دون إصابة واضحة، وأدخلا المستشفى بسبب “الإرهاق في القتال”.

وجذبت هذه الاضطرابات انتباه الأطباء النفسيين الذين يعالجون جنودا عائدين من الحرب الهندية الصينية والجزائر وفيتنام. لكن لم تؤخذ هذه الظاهرة في الاعتبار في الجيوش الغربية حتى نهاية القرن العشرين وتوالي الصراعات الطويلة والوحشية.

وفي الجيوش الفرنسية، تم الاعتراف رسميا بالإصابة النفسية العام 1992. لكن أفغانستان شكّلت نقطة تحول فعلية. بعد فترة طويلة من عمليات حفظ السلام، أعادت القوات اكتشاف عنف القتال والصدمات المرتبطة به. وفي نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ الجيش الفرنسي تطوير المراقبة النفسية من بدء المهمة في الصراع الأفغاني إلى العودة منها.

5