الدبيبة وبوتين.. حفتر والجزائر

رفع رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة السقف عاليا عندما تحدث عن زيارة مرتقبة يؤديها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بلاده. قد يكون ذلك صدى مزحة في مجلس خاص أو إشارة خائبة من مستشار خاص جدا، أو ربما محاولة للغمز من قناة أطراف غربية لديها حساسية خاصة نحو من تراه عدوا لمشاريعها ومنافسا لها في ليبيا.
ربما كان على المهندس الدبيبة أن يفسّر أكثر كيف سيزور بوتين طرابلس التي لم تستقبل أي مسؤول روسي مهما كانت رتبته منذ سنوات طويلة، بل إن نائب وزير الخارجية الروسي، مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا ميخائيل بوغدانوف، أعلن قبل أيام أنه حتى "لا توجد مواعيد نهائية لافتتاح السفارة الروسية في ليبيا"، وقال "نحن نعمل على هذه القضية. الأمر ليس بهذه البساطة، والأهم هو موضوع الأمن لاستئناف عمل السفارة الروسية في ليبيا، كلما كان ذلك أسرع كلما كان ذلك أفضل، لكن لا يمكننا المخاطرة بشعبنا وأمن بعثاتنا الخارجية".
قبل عام، كانت روسيا قد أعادت فتح سفارتها في ليبيا، ولكن من تونس، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى دولة كبرى لديها علاقات عريقة مع الدولة الليبية ومصالح فيها، وتريد أن تتابع الأوضاع عن قرب، ولاسيما أنها تعتبر جزءا من التجاذبات الحاصلة هناك من خلال ما يحسب عليها من دعم مباشر لقائد الجيش المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في برقة، مقابل المحور المدعوم من الدول الغربية في طرابلس.
أنقرة وحلفاءها المحليين في غرب ليبيا أقنعوا واشنطن والأوروبيين بأن سحب القوات التركية والمرتزقة السوريين سيحدث خللا في التوازنات الميدانية وسيعطي أسبقية للجيش وحلفائه الروس
منذ العام 2011 لم يحدث أن أقدم وزير روسي على زيارة طرابلس، نظرا إلى أسباب عدة منها موقف موسكو الواضح من تدخل حلف الناتو للإطاحة بالنظام السابق الذي كان استقبل بوتين في العام 2008 في زيارة تاريخية كانت الأولى من نوعها التي يؤديها زعيم روسي إلى الدولة الثرية في شمال أفريقيا، ومحاولات الغرب تحويل ما سمّي بثورات الربيع العربي إلى ملكية حصرية لها ضمن خطته لإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، وبسط النفوذ على دول كانت تعتبر من إرث الحرب الباردة على غرار ما حصل في أوروبا الشرقية. وفي أكتوبر 2013 تعرضت سفارة موسكو في طرابلس إلى هجوم مسلح أدى إلى غلقها وإجلاء جميع العاملين فيها.
وبعد إطلاق عملية الكرامة في شرق البلاد واندلاع الحرب الأهلية الثانية في صيف 2014 بعد انقلاب "فجر ليبيا" على نتائج الانتخابية البرلمانية التي خسرها الإسلاميون، تشكل موقف روسي أقرب إلى البرلمان المنعقد في طبرق وحكومته المؤقتة وإلى قائد الجيش المشير خليفة حفتر الذي زار موسكو في مناسبات عدة منذ العام 2016، وكان في حاجة ماسة إلى الدعم العسكري أولا، باعتبار أن الأسلحة الموروثة عن النظام السابق كانت في أغلبها من بقايا العلاقات القديمة مع الاتحاد السوفييتي، وهي تحتاج إلى صيانة وقطع غيار لتعود إلى العمل وإلى خبراء ميدانيين، إلى أن بات الحديث ينصبّ على شركة "فاغنر" الخاصة التي تحولت إلى جزء من المشكلة ولاسيما مع دفع تركيا بالآلاف من المرتزقة تنفيذا لمذكرة التفاهم بين الرئيسي التركي رجب طيب أردوغان وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي السابق في نوفمبر 2019.
منذ أيام راجت تصريحات للمشير حفتر، قال فيها إن طيرانا أميركيا يتبع "الأفريكوم" شن غارات على قواته التي كانت تسيطر على مساحات مهمة في غرب البلاد، وإن القوات التركية كانت تحاربه هناك بتقنيات وأسلحة "الناتو"، والسبب أن واشنطن كانت تنظر إليه كحليف لروسيا ممنوع من الوصول إلى قلب طرابلس. وعندما زاره وفد أميركي في ضاحية الرجمة ببنغازي، طلب منه قطع علاقته مع موسكو، فما كان من حفتر إلا أن طلب البديل، وهو ما لم ترد عليه الإدارة الأميركية.
ما ورد على لسان حفتر يؤكد أن حالة استقطاب حادة تدور في ليبيا بين روسيا من جهة وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة ثانية، وهو ما ألقى بظلاله على المشهد الليبي مؤخرا بعد أن استغلته تركيا لفائدتها جيدا. وتراجع الحديث عن ضرورة إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة وحل الميليشيات، وأصبح التركيز أكثر على الانتخابات المقرر تنظيمها في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم. والسبب أن أنقرة وحلفاءها المحليين في غرب ليبيا وخاصة من الإخوان وأمراء الحرب والزعماء الجهويين أقنعوا واشنطن والأوروبيين بأن سحب القوات التركية والمرتزقة السوريين سيحدث خللا في التوازنات الميدانية وسيعطي أسبقية للجيش وحلفائه الروس. وزادوا على ذلك بأن الانتخاب الشعبي الحر المباشر لرئيس ليبيا القادم دون تقييده بشروط مجحفة وصلاحيات محدودة تخلو حتى من القيادة العليا للقوات المسلحة، سيأتي بحاكم قوي ومتغطرس قد يكون إما من قيادة الجيش أو من أنصار النظام السابق. وبالأسماء كانت الأصابع تشير نحو خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي اللذين تدافع روسيا بقوة عن حقهما وحق أنصارهما في الترشح للمنافسة على ثقة الشعب.
لا شيء في ليبيا يستمر على حاله، ولكن المؤكد أن لا شيء يمكن أن يتم من خارج التوافقات الدولية، وعندما يتحدث الدبيبة عن زيارة قريبة سيؤديها بوتين إلى طرابلس، إنما يرمي عبوة يعرف أنها قد تثير هلعا ولكنها لن تنفجر
التشابكات لا تقف عند هذا الحد، فالجزائر التي قال رئيسها إنه لا يرى التدخل التركي في المنطقة أمرا مستفزا لبلاده، تبدو اليوم في حالة تنسيق تام مع الولايات المتحدة حول ليبيا رغم أن ذلك يتناقض مع مصالح حليفتها الاستراتيجية روسيا. وفي الأيام الماضية كان واضحا أن الجزائر التي تناوئ قوات حفتر مقابل دعمها لميليشيات المنطقة الغربية، تعمل بقوة على نيل شهادة رضا من واشنطن من باب السعي للتأثير على موقف الإدارة الأميركية الداعم لمغربية الصحراء بعد الاعتراف بها، وكذلك بغاية توجيه رسائل إلى فرنسا التي تواجه علاقاتها معها حالة من الجمود.
ويبدو أن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون كان يستند، وهو يعلن من على قناة "الجزيرة" أن بلاده كانت ستتدخل لمنع الجيش من السيطرة على طرابلس، على ما كشف عنه حفتر حول الدور الأميركي في ضرب قواته في غرب ليبيا، كما كان يعلم أن القوات التركية إنما كانت تتحرّك بقرار من واشنطن. وعندما ردّ حفتر على تلك التصريحات بإعادة نشر قواته في جنوب غرب ليبيا في عملية وصفت بالأمنية لمواجهة خلايا الإرهاب، وأغلق المعابر مع الجزائر، رفضت واشنطن ذلك، وقالت إن تلك التحركات لا تحظى بدعم المجتمع الدولي. كما أن الرئيس بايدن تحدث في رسالته إلى تبون عن تقديره لما وصفها بالشراكة والجهود الثنائية بين البلدين لدعم الاستقرار في المنطقة خاصة ليبيا ومنطقة الساحل، وهو ما يشير إلى ارتياح أميركي واضح للدور الجزائري، ثم جاءت تصريحات قائد أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة التي كانت بدورها تصب في إبداء العداء الكامل لحفتر وقواته، وهو ما يمكن قراءته على أنه ينطلق من قناعة بأن دور حفتر قد يكون انتهى من وجهة النظر الأميركية، أو ربما انتهى في الغرب الليبي على الأقل.
لا شيء في ليبيا يستمر على حاله، ولكن المؤكد أن لا شيء يمكن أن يتم من خارج التوافقات الدولية بما في ذلك بين واشنطن وموسكو. وعندما يتحدث الدبيبة عن زيارة قريبة سيؤديها بوتين إلى طرابلس، إنما يرمي عبوة يعرف أنها قد تثير هلعا ولكنها لن تنفجر، لأنه لا الرئيس الروسي سيزور ليبيا، ولا الروس سيحققون ما يريد الإشارة إليه من إمكانية وصول حلفائهم إلى الحكم قريبا، ولاسيما أن الصراع متواصل تحركه إرادات أجنبية أكثر مما تؤثر فيه إرادة الليبيين أنفسهم.