نزار الحطاب.. فنان سوري يرسم أحلاما موغلة في الآتي

عازف بهلواني على وتر الألوان المُصغية للذاكرة والذكريات الحميمة.
الأربعاء 2021/06/30
الإنسان غاية اللوحة وجوهرها

حلب من أكثر المدن التي تقترب من الحياة، فيها قوة هائلة تجعلها تنبض على الدوام، ترفض الاستكانة والموت مهما كانت فاجعتها كبيرة، ففيها من القلاع ما يكفي رفعها إلى سموات تحمي طموحاتها وحياتها ووحدة حالها. قلاع كثيرة لا تحصى ولا تعد، فيها صباح فخري، عمر بطش، صبري مدلل، فاتح المدرس، لؤي كيالي وأيضا نزار الحطاب الفنان التشكيلي السوري الذي اقترنت فرشاته وحياته بحلب.

غريب ملا زلال

دمشق - ينتمي التشكيلي نزار الحطاب المولود في حلب في العام 1969، إلى جوقة من الفنانين السوريين الذين ارتبطوا بالإنسان بقدر ارتباطهم بحلب، على غرار وحيد استانبولي وسعد يكن وعبدالرحمن مهنا وعنايت عطار وناصر نعسان آغا وإبراهيم حسون وأحمد برهو ووحيد مغاربة.. إلخ.

جوقة تجمع تراكمات حياة المعيش اليومي بشؤون حلب وشجونها، برغباتها واهتماماتها، بوجوهها وتفاصيلهم، ويرفعونها لئلا يهزّها الموت، لئلا تكون قربانا على مذابح الآلهة.

الحطاب ينتمي إلى تلك الجوقة وتلك الذاكرة، فهو فنان مجتهد على طريقته الخاصة، صاحب تفاؤل مستقيم، تفاؤل يدعوه إلى التبشير بالسلام والجمال مهما كانت ظروف المكان محبطة ومتفاقمة، مهما كان الألم عميقا فهو يستخدم المفهوم الإنساني بالذات، يستخدمه بقوة وثبات وإخلاص كي يبقى المثل الأعلى مجسّدا في الإنسان غاية الفن والجمال.

حتمية الوصول

نزار الحطاب يطرح في لوحاته ما يمكن أن نسميه الاقتران بحتمية الوصول في إطاره الاجتماعي الإنساني، الجمالي الإبداعي، وكلما كان التفاوت بينها غير واضح كلما كان الاقتران على أشدّه، وهذا لا يلحق الضرر بما هو واقعي بل يمنحه دلالات تجعل له معنى ومغزى، ودون أن تخضعه لنمطيات من الإمكان نسفها دون تدخلات قوى العالم الآخر، ودون أن يلغي ما هو ملموس الذي سيظهر عنده في أشكال واتجاهات يمكن اعتبارها تصوّرات لجمهرة كبيرة من معلومات ستسرد لاحقا بهدوء وتأمل كل مقاماتها.

والحطاب يتجنّب تقديم تصوير دقيق للحياة، بل يضع المفارقات الشتى نصب عينيه، المفارقات التي تبدو غريبة وغير اعتيادية ومرتبطة إلى حد ما باتجاهات استثنائية ستكون صدى لتلك الحياة.

نزار الحطاب صاحب تفاؤل مستقيم يدعوه إلى التبشير بالسلام والجمال مهما كانت ظروف المكان محبطة ومتفاقمة

لكن بلمسات مختلفة خاصة به، فلا حصر للحدود عنده، ولا سبيل لديه لمصالح الحياة اليومية، فكل المعطيات عنده تشير إلى استيقاظ الفعل المحسوس لديه بظروفه الانطلاقية، ساعيا لتطويره ليكون أكثر انسجاما، وأكثر تناغما مع المقدّمات الأولى ومع ما يحيط بها من تبعات ملائمة، فهو يحقّق نقلة نوعية في تجاوز الأوهام، وما سقوط الترهلات التي تشوّش الأذهان من جعبته إلاّ تعليلا نافعا من الوجهة المعرفية وكنتاج لسيرورة الفعل ذاته، وهو يتجلى في مصائر الحالات والصراعات الحياتية تجسيدا لها في تطوّر عوالمها الداخلية وما ترافقها من حركات هي بالمجمل تنبؤات لبعض المسائل التي لم يتم حلها أو كشفها بعد. وكل هذا يأتي مرتبطا بغايته الفكرية القائمة في ذهنه، وبمدى بسطها كموضوعات جمالية في الزمان وفي المكان مع الاختيار الصائب للبناء الفني. والحطاب لا يحتار في حل القضايا الفنية التي قد تبرز أمامه، ومن الطبيعي أن يلجأ إلى المخزون الذي راكمته التجارب الكثيرة، إضافة إلى طرحه لمضامين الظواهر المطروحة أمامه بصدق وتركيز، فالسمات الجوهرية لدوائره غير محددة، ورغم ذلك يدهشنا دائما بحلوله الفنية وما تقتضيها الضرورات الداخلية للموضوع المعالج في مجمل أعماله، وهذا من شأنه أن يرفع درجة حريته في مجالات بنائه الفني غير المحدودة.

الاشتغال على أفقين

رسوخ وثبات لا يعنيان التكرار
رسوخ وثبات لا يعنيان التكرار

الحطاب يسبر أعماق الحياة، ويلتفت للواقع المعاصر له حتى يبرز أمامه عالم كامل متنوّع إلى ما لا نهاية في ظواهره متناقض ومتحرّك ومتغيّر، وما وجوهه الحالمة في مزرعته الفنية إلاّ كسرا للنمذجة، وتعميما جماليا يخدم أغراض التصوير التاريخي الملموس لديه، فهو يفتّش ويختار من الوجوه ما تحمله من زبد الحياة بتياراتها العميقة، ويصوّر ما هو جوهري فيها، وإن كان يلاحظ عليها التغيير المتبدّل، فنرى فيها ما هو ثابت، راسخ، متكرّر، أو ما هو فردي أقرب إلى الأنموذج.

وفرز الخيوط المتقاطعة بين الحالتين مهمة في غاية الصعوبة والتعقيد، ويبذل الفنان الحلبي من الجهد الكثير حتى يمضي بهما نحو الخلاص، يمضي بهما وبما يترتب عليهما من شعور المتلقي بالبعد والنفور، أو بالقرب والتسلّل نحو سمات وجوهه المرتبطة بالمثير الجمالي من جهة تركيبه وغموضه وجدته، أو من جهة التقاطه للمعلومات ثم معالجتها والتعبير عنها حتى تنزاح بعيدا أو قريبا لتستثير الشعور على الرغم ممّا نعرفه من صعوبة القيام بمثل هذه المهمة. وقد تكون تلك المسافة المزاحة هي الحاملة للقيم المعرفية، وللتفضيلات الجمالية التي ستميّز تركيباته البصرية ومكوّناتها الأساسية في ضوء فهمنا الجديد لها، فهو لا يواجه الأشياء مكرها بل استجابة لتأملاته وما تحمله من حب، ولديه من الخبرة تراكمات تجعله أكثر تركيزا على خصائص الشكل بقيمها العليا التي تحمل جمالياتها بكل مظاهرها التي تستجيب للذائقة الفطرية بقدر استجابتها للذائقة المثقفة والمهذبة، وهذه ميزة لا يقدر على فعلها إلاّ القلة من الفنانين.

الفنان الحلبي يختار من الوجوه ما تحمله من زبد الحياة بتياراتها العميقة، ويصور ما هو جوهري وأصيل فيها

الحطاب من هؤلاء، ينتبه لعلامات الجمال بدقة ويعدّل من مرونة التفاصيل وأهميتها، وما لها من منح القدرة له حتى يكون قادرا على تغيير الزاوية الذهنية لوقفته.

الزاوية التي تجعل من عوالم التفاصيل بالكشف عن تصميمات جديدة ترتقي به نحو أمكنة مشبعة جماليا، مولعة بالحلم، الحلم الذي يعيه الفنان كمفهوم مُمتع يثير الانفعال من جانبه الإيجابي، منه يستلهم ما يحقّقه من إنجاز بنية العمل، بوصفها بنية معطاة مشتملة في الوقت نفسه على أفقين.

أفق التوقّع المفترض في العمل، وأفق التجربة المفترض في المتلقي، بنية عليها ينهض سر وجوهه التي تكتوي باحتمالات رؤيوية مفتوحة على الحياة بموضوعاتها الكثيرة.

احتمالات مفتوحة دائما لمعايشة أبعاد جديدة ترتبط بشكل وثيق بذلك السرّ الذي يسكنه، ويسكن وجوهه بتنوّعها وإمكانياتها، وقدراتها في تجاور العلاقات المتخيلة التي لا تنفي أن جريانها يتمّ من لحظة شروعها في فتح مجراها وفق ما يؤمّن لها البقاء، إلى لحظة تشكّلها للمضي بصمتها وحلمها في ذاتها الموغلة في المجيء، فلا يبقى منها إلاّ ما يهفو إلى المكاشفة عن الانفتاح وعن لحظات التقاطع التي تعلن عنها الموجودات المنتشلة من هول وجوهها وتأملاّتها، ومن هول مواجهاتها للغة حملت مقاماتها في ذاتها، وأصغت كثيرا لحلم الغياب.

16