محمد حسين يعقوب.. لو لم يوجد لاخترعه اليائسون

لماذا تنكّر الداعية السلفي المصري محمد حسين يعقوب لتاريخه الطويل في إصدار فتاوى وآراء سياسية تابعها الملايين على شاشات التلفاز أيام حكم الإخوان في مصر. يعقوب الذي يمارس “الدعوة” منذ عام 1978 نفى أي علاقة له بالسياسة، رغم أنه صاحب مصطلح “غزوة الصناديق”.
شهادة السلفي محمد حسين يعقوب، في محاكمة أفراد خلية داعشية بالقاهرة، تحطم أساطير بشرية لو لم توجد لاخترعها المحبطون الباحثون عن أمل. لا يختلف يعقوب إلا في الدرجة عن الشيخين محمد متولي الشعراوي وعلي الجفري، والممثل محمد رمضان، والرئيس السابق للبرلمان علي عبدالعال، والقاضي السابق مرتضى منصور، والباحث السابق في التراث يوسف زيدان.
أساطير شعبوية أسهم في صناعتها الفراغ واليأس واحتيالات السلطة وسطوة الإعلام. ويمتدّ عمر الأسطورة حتى تصطدم بالحقيقة. وقد يتأخر هذا الارتطام انتظارا لثورة معرفية لا تبالي بقداسات، أو تكشفه مصادفة مثل شهادة يعقوب الذي أنكر 43 عاما من إيهام المساكين. وليس عدلا أن نركز فقط على رجال الدين.
لكن الفرق بين رجال الدين وغيرهم أن الآخرين لا يرفعون راية رسولية، ولا يتكلمون باسم الله، ولا تحضّ بذاءاتهم على كراهية المختلف في الدين أو المذهب، ولا يترتب على خطابهم وأدائهم القبيح جريمة. أما الذين يحلو لهم لقب “الدعاة” فأنصارهم عراة الأعصاب، جاهزون للفداء، وتصبّ حماستهم في تعمير جيوب “الدعاة” بالمزيد من الثروات. شارك الذين أوردتُ أسماءهم في الفقرة الأولى في إشاعة القبح واستئناسه، والتطبيع معه، حتى أصبح الجمهور ينتظر ظهورهم في الفضائيات؛ ليتسلى أو يزداد إيمانا بما هو مؤمن به. والقبح الذي أقصده يتعلق بالسلوك المعلن لا بالشخص نفسه. ما أسوأ أن يعتاد الجمهور سباب قاض سابق لأمهات مخالفيه.
السباب الآمن أدمن يوسف زيدان توجيهه إلى رموز تاريخيين، ولا يجرؤ على الاقتراب من حكام يقابلهم، ويعلم أنهم أطغى من صلاح الدين الأيوبي الذي ليس معصوما، وسيرته تخضع للنقد الذي لا يندرج تحته قول زيدان، عام 2017 “صلاح الدين من أحقر الشخصيات في التاريخ”، فتلقف كلامَه وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، وأبدى سعادته بكلام ينزع الهيبة عن الأيوبي، “أكبر إرهابي في التاريخ الإسلامي وعن أسطورة المسجد الأقصى المصطنعة. التصريحات تدفع باعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل”. ولا تفرغ بقجة زيدان من تصريحات يضمن بها البقاء تحت الأضواء، وهو ظمأ قديم، لم تحققه له شتائمه للجزائريين، لمصلحة حسني مبارك، وأفلح التلفزيون في تحقيقه.
ما الاجتهاد الفقهي لطابور من الوعاظ، من الشعراوي إلى يعقوب وإخوانه؟ يتصدرون المشهد وتغيّب اجتهادات غيرهم
يتنفس الجمهور هواء مسموما فيعجز عن أن يميز الخبيث من الطيب، وينتخب قاضيا سابقا لرئاسة نادٍ رياضي، وينتظره في الفضائيات؛ ليشتم أمهات الآخرين، وينتهك الأعراض. هو نفسه الجمهور الذي لم يستنكر على الرئيس السابق للبرلمان المصري استبداده الطفولي في إدارة الجلسات، وتخلّيه عن وقار “الأستاذ الدكتور”. والمنصت إلى علي عبدالعال يعجب فيسأل: كيف نجح في الشهادة الابتدائية وهو يخطئ في قراءة بيان مكتوب؟ أخطاء ساذجة لا تخلو منها جملة، ولو كانت آية قرآنية. هذا جمهور لا يميز القبح من الجمال، وإليه توجه الشعراوي والجفري، فاتفقا على أن تارك الصلاة كافر يجب قتله، “وإن كان كسلا يستتاب ثلاثة أيام، ثم يقتل”.
في هذه الأجواء المسمومة يصير يعقوب وغيره من السلفيين نجوما، ويجد خطابهم رواجا لدى معذبين ومظلومين فقدوا العدل في الدنيا، فالتمسوه في الآخرة. وينشط “الدعاة” في ترويج بضاعة تضخ في أرصدتهم أموالا، والجمهور يصدقهم، لأن التشكيك في كلامهم جالب للاكتئاب والانتحار. قال علي جمعة المفتي السابق ردّا على الملحدين “لو ما فيش ربنا، الدنيا تبقى سوداء وكئيبة، وخازوق مغرّي”.
لا فرق كبيرا بين رجال الدين الهواة أمثال يعقوب الذي يمارس “الدعوة” منذ عام 1978، والجفري والشعراوي الذي ينقض أسطورتَه شبان لم يعاصروه، ويستخرجون من أحاديثه ما يوجب المساءلة الإنسانية، مثل التشجيع على الكراهية، وتحريم نقل الأعضاء، وترك المرضى فرائس للموت.
بعيدا عن النقل والاجترار، ما الاجتهاد الفقهي لطابور من الوعاظ، من محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي إلى محمد يعقوب وإخوانه؟ يتصدرون المشهد وتغيّب اجتهادات الشيخ محمد عبده ومصطفى وعلي عبدالرازق، وعبدالمتعال الصعيدي وغيرهم. وتقوم ثورة شعبية، فيتخذها السلفيون والإخوان حصان طروادة، ويشكلون في نهاية عام 2011 “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح”، وباكورة أنشطتها طعن في عقيدة غيرهم، والإفتاء بعدم تهنئتهم بالسنة الجديدة؛ فالمسلمون “لا يعتقدون في صلب السيد المسيح عليه السلام”. تلك الهيئة تزعمها خيرت الشاطر وحازم أبوإسماعيل ومحمد حسين يعقوب ومحمد حسان وياسر برهامي. حسم هؤلاء الغلاظ مسألة المسيحيين، ثم جاء الدور على المختلف معهم في المذهب، وكان حكم الإخوان فرصتهم.
باستعراض صوتي يحمل الكثير من التباهي والاستعلاء، أبلغ يعقوب جمعا من مريديه آنذاك، بقول الرئيس الإخواني محمد مرسي له “الشيعة أخطر على الإسلام من اليهود”. وفي الـ15 من يونيو 2013، شهد ستاد القاهرة مؤتمر “نصرة سوريا”. كان الرئيس الأميركي باراك أوباما أعلن في اليوم السابق تزويد معارضي بشار الأسد بأسلحة ثقيلة مضادة للطائرات والدروع، وفي اليوم التالي نظم المؤتمر الجماهيري بحضور مرسي الذي أعلن الجهاد في سوريا، لا في فلسطين. وانحرف الكلام إلى الشيعة الذين كفّرهم السلفيون، واتهمهم نائب رئيس “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح” محمد عبدالمقصود بأنهم “أنجاس”، فسارع قتلة إلى تنفيذ حكم الله في أربعة من الشيعة المصريين وسحلوهم، وكبّروا فرحا بالنصر.
بعد فتن حصادها دماء وأرواح وتخريب، تنكّر يعقوب في المحكمة لماضيه، وأعلن عن مستوى متواضع من التحصيل العلمي والفقهي، فأعلى مؤهلاته دبلوم المعلمين. سأله القاضي عن الفكر السلفي ومضمونه، فأجاب بأنه ليس سلفيا، والسؤال يوجه إلى دعاه الفكر السلفي. وقال إنه لا يمارس الفتوى، ولا يعرف الفكر الداعشي، وإن سيد قطب لم يتفقه، ولم يدرس العلوم الدينية على يد شيخ. وكأن السلفيين الهواة السارحين قد درسوا علوم الفقه في الأزهر. وبعد صولاته الاستعراضية التي تشتبك بأحداث سياسية ميدانية، نفى علاقته بالسياسة. يعقوب صاحب مصطلح “غزوة الصناديق”، في استفتاء على تعديلات دستورية رآها السلفيون والإخوان فرصة لتبريد ثورة الـ25 من يناير 2011 وتطويقها.
وافقت نتيجة الاستفتاء هوى الإخوان والمجلس العسكري، فطمأن يعقوب مريديه بأن الجماهير “قالت للدين: نعم”، وكبّر معهم تكبيرة العيد في شهر ربيع الآخر، وقال “الدين هيدخل في كل حاجة، مش دي الديمقراطية بتاعتكم، الشعب قال نعم للدين، واللي يقول البلد ما نعرفش نعيش فيه أنت حر… عندهم تأشيرات كندا وأميركا”. لم تكن سكرة يعقوب عابرة، فاستمرت بعد عزل مرسي، وظل يراهن على رجوعه، واعتلى بصحبة محمد حسان منصة مؤيدة للإخوان، وقال “نحن بين أيديكم، ودماؤنا دون دمائكم، ونقول لمن يقول إنه سيفض الاعتصامات لن تفض الاعتصامات”. في زمان مريض، يصير أمثال يعقوب نجوما تستهوي جماهير يائسة، تقول للأقرع: أنت شعراوي.