قادة الجزائر: محاكاة ساخرة للذات

نظريات المؤامرة لا تناسب الحكام الجزائريين الذين غالبا ما يمتلكون حسابات مصرفية في الخارج، والذين يدرس أطفالهم في أوروبا والولايات المتحدة، حتى أن العديد منهم يحملون جوازات سفر فرنسية.
الأربعاء 2021/06/09
دولة بلا عسكر مازالت بعيدة

يمكن اعتبار الجزائر من بين الدول الاستبدادية الكبرى بسبب إصرارها على إبعاد وسائل الإعلام الدولية، فيما تستمر في سياسة التضييق على الإعلام داخليا.

ولم يتم الرد على طلبات الحصول على تأشيرات من قبل وسائل الإعلام الغربية الرائدة -بما في ذلك بي بي سي ونيويورك تايمز- لتغطية الأحداث في البلاد، كما من النادر ظهور الجزائر في أخبار العالم الدولية.

ورغم الصعوبات نقلت وسائل الإعلام العالمية تظاهر الملايين في جميع أنحاء البلاد، أسبوعا بعد أسبوع ولمدة تسعة أشهر سنة 2019. ومع إجراءات الإغلاق المقترنة بالوباء حاول حكام البلاد وضع حد لحركة الحراك التي فشلت، رغم انتشارها السلمي من أجل الديمقراطية، في إقناع القيادة العسكرية العليا بضرورة المضي نحو دولة مدنية.

لقد ولت الأيام التي نالت فيها شجاعة الرجال والنساء الجزائريين الذين استولوا على السلطة السياسية والعسكرية من فرنسا إعجاب الكثيرين في جميع أنحاء العالم بمن في ذلك عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية ماين، جون فيتزجيرالد كينيدي. كما ولت آمال التنمية الاقتصادية التي تعززت في الأيام العظيمة بعد الاستقلال في العالم الثالث والفاصل القصير للإصلاح بين سنتي 1988 – 1992 عندما بدت التعددية السياسية ممكنة في الجزائر، حتى لو استمر الانطباع لبضع سنوات فقط.

وبعد عامين من سقوط الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سجن القادة الجزائريون 43 مليون جزائري وفقدوا الكثير من النفوذ الإقليمي الذي كان يمارسه دبلوماسيوهم اللامعون في السابق. قد لا يكون لديهم ما يكفي من الغاز للتصدير بحلول 2030 إذا لم يقوموا بإعادة هيكلة عاجلة لقطاع النفط والغاز، وفقا لعلي حشاد نائب الرئيس السابق لشركة النفط الحكومية سوناطراك. وليست هذه مخاطر متوسطة، حيث تمثل الهيدروكربونات 97 في المئة من الدخل الخارجي في الجزائر.

وفي ما يمكن القول إنه أحد أفضل الكتب التي كتبت عن الجزائر على الإطلاق، “ذا كال فروم ألجيريا” (نداء من الجزائر)، كتب روبرت مالي قبل ربع قرن “مع مرور السنوات، وفي محاكاة ساخرة للذات، يأخذ النظام تدريجيا سمات كاريكاتيراته الأكثر وحشية. فبعد أن ظل خطابه طويلا خاليا من المعنى، انتهى به الأمر إلى العزلة… ولم يكن هناك من يتحدث معه إلا نفسه”.

وتعكس رمزية إغراق العاصمة بعدد من رجال الشرطة أكثر من المتظاهرين كل يوم جمعة، وإيقاف جميع القطارات والحافلات ووسائل النقل الأخرى، ازدراء الجيش للشعب. وأعيد اللواء خالد نزار (من مواليد 1937) من المنفى في برشلونة خلال يناير الماضي، لتقديم المشورة إلى الرئيس عبدالمجيد تبون (من مواليد 1945) بينما أطلق على الجنرال محمد مدين (من مواليد 1939) لقب “رب الجزائر” أثناء سنوات في السلطة. وكانت إقالته المخزية على يد بوتفليقة في 2015، بعد أن استمر ربع قرن في منصبه، أقرب إلى ملاكمة الظل منها إلى كونها وصمة عار حقيقية. وينتمي رئيس أركان الجيش، منذ يناير 2020، اللواء سعيد شنقريحة (من مواليد 1945) إلى نفس الفئة العمرية. ولا عجب في أن بلدا يقل متوسط ​​عمر سكانه عن 30 عاما قد توقف عن الاهتمام بالكراسي الموسيقية.

ويواصل الرئيس عبدالمجيد تبون وعوده بالإصلاح ويشرح كيف أن متآمرين أجانب اختطفوا الحراك “المقدس”. ويتحدث التلفزيون الرسمي، ليلة بعد ليلة، عن الأعمال المجيدة التي قام بها أبطال الكفاح الدموي من أجل الاستقلال، غافلا عن حقيقة أن الجيش والأمن قد صادرا الديمقراطية حتى قبل استقلال البلاد على أيدي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

ومؤخرا عرض فيلم من إنتاج الجيش بعنوان “من يستهدف الجزائر؟ الحقيقة كاملة”، وهو خليط من اتهامات التآمر يدمج الأمازيغ والإسلاميين والعاملين الفرنسيين. وفي أبريل اتهم وزير العمل الهاشمي جعبوب فرنسا بأنها “العدو التقليدي والأبدي للجزائر”. ثم ألغت الحكومة الجزائرية زيارة كان من المقرر أن يجريها رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس إلى الجزائر قبل أيام قليلة من موعدها المفترض.

وفي الشهر الماضي اتهم تبون، الذي عادة ما يردد مواقف الجيش، فرنسا بـ”ذبح نصف سكان الجزائر” خلال حرب التحرير، في مبالغة تاريخية صارخة بلا شك. وكان الكاتب مولود فرعون، صديق الكاتب الفرنسي ألبير كامو الذي دعم التمرد ضد فرنسا وقتل على يد منظمة الجيش السرية اليمينية عشية الاستقلال، قد تنبأ مباشرة بعد بدء الحرب في 1954 بأن “السكان الأصليين الجزائريين، الذين أُهينوا بالأمس، ويعذّبون الآن ويطاردون، سينتهي بهم الأمر في أسوإ عبودية عرفوها”. ولا تناسب نظريات المؤامرة الحكام الذين غالبا ما يمتلكون حسابات مصرفية في الخارج، والذين يدرس أطفالهم في أوروبا والولايات المتحدة. حتى أن العديد منهم يحملون جوازات سفر فرنسية.

ويجب ملاحظة خاصيتين لحركة الاحتجاج؛ فقد كانت الحركة أقوى بين السكان الأصليين الناطقين باللغة الأمازيغية مما هي عليه بين الناطقين بالعربية. وسمح هذا للحكام بتصوير حركة الاحتجاج على أنها “غير وطنية” وأنها تندرج في إطار الصراع المفترض بين البربر والعرب، والذي هو في الواقع من إبداعات الاستعمار. وقد استغل القوميون العرب هذا الانقسام الملفق بعد الاستقلال كما ذكر روبرت مالي في كتابه. كما لم ينجح الحراك في بناء منظمة أو قيادة حقيقية خلال الأشهر الستة التي تمتع فيها بحرية التصرف نسبيا عام 2019. وقد نجح في منع بوتفليقة من الترشح لولاية خامسة، وهو ما لم يكن في حد ذاته بطوليا، لكنه فشل في تقديم منصة للإصلاحات. وربما كان من المبالغ فيه مطالبة حركة اجتماعية واسعة ومتنوعة بتقديم حلول للمشاكل المطروحة في مثل هذا الوقت القصير.

Thumbnail

لقد بذلت قوات الأمن كل ما في وسعها لإثارة العنف بين المتظاهرين الذين لم ينخدعوا بالطعم أبدا، مما أدى إلى زعزعة القناعة الراسخة لدى الكثيرين في الغرب بأن المجتمع الجزائري عنيف بطبعه. لقد تعرض كمال الدين فخار للمضايقات على مدى سنوات قبل أن يموت في السجن نتيجة إضرابه عن الطعام والإهمال الطبي في مايو 2019، وتوفي القائد السابق لجيش التحرير الوطني الأخضر بورقعة (1933 – 2019) بعد فترة وجيزة من إطلاق سراحه من السجن (مدة أربعة أشهر)، وتعرض الرئيس السابق للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان مصطفى بوشاشي إلى السب في حملات إعلامية مع الصحافي السابق فضيل بومالة.

ويخشى الجيش هذه الشخصيات الكاريزمية ويعاملها بقسوة بينما يسرع القادة الأوروبيون إلى التنديد بضحايا القمع في دول مثل روسيا وإيران والصين.

ويعطي القادة السياسيون الفرنسيون نظراءهم في الاتحاد الأوروبي والجزائر انطباعا بأنهم يخشون الفوضى المحتملة التي قد تنجم عن سياسات أكثر حرية من وحشية النظام. وغالبا ما يدفع الخوف من الإسلام السياسي، الذي عادة ما يختلط بالإرهاب، القادة الغربيين إلى تأييد الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا تزال ذكريات “العقد الأسود” المؤلمة حية لكن المخاوف من المخططات الإسلامية لم تعد من بين أكبر اهتمامات الجزائريين اليوم. وإلى جانب ذلك لم تُظهر شعارات الحراك أي مؤشر على انجراف حركة الاحتجاج الشعبي إلى وجهات نظر دينية متطرفة.

ويتحدث ريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، عما يراه “عجزا لدى الدبلوماسيين والسياسيين الفرنسيين عن التفكير في شمال أفريقيا، والجزائر على وجه الخصوص” التي ينظر إليها “على أنها تتمتع بهوية خاصة ولا ترتبط ارتباطا وثيقا بباريس”.

يعكس هذا الافتقار إلى الخيال السياسي وسيطرة النظرة الضيقة العاجزة عن اجتراح أفضل الحلول من أجل الدفاع عن المصالح الاقتصادية الفرنسية نقصا في التفكير الاستراتيجي. وعلى المدى المتوسط سيقوض ذلك مصالح فرنسا والاتحاد الأوروبي في المنطقة وقدرتهما على التأثير في الأحداث. في المقابل تحقق روسيا وتركيا والصين مكاسب في ليبيا وتونس والجزائر. ويتجسد فشل الخيال السياسي الأوروبي في الجزائر حيث لم نشهد بذل أي جهد لدراسة المحفوظات العثمانية في إسطنبول مما سيسمح بإعادة بناء بلد لعب لأكثر من ثلاثة قرون دورا مهما في الإمبراطورية.

ويناسب معظم القادة الجزائريين أن ينسوا تاريخهم وأن يعرّفوا أنفسهم على خلفية الانتهاكات التي ترتكبها القوة الاستعمارية التي لا تحملها الغالبية العظمى من شعبها المسؤولية عن الطريق المسدود الذي تجد فيه البلاد نفسها اليوم.

ويبدو أن أسباب عودة ظهور الجنراليْن نزار ومدين هي نتيجة قرار رصّ صفوف الجيش والأمن في أعقاب المرض الذي أبقى تبون في عيادة ألمانية لأشهر أواخر العام الماضي. كما أراد الجيش أن يترك وراءه الانقسامات التي أحدثها الجنرال الراحل قايد صالح خلال الأشهر التسعة التي كان فيها الحاكم الفعلي للجزائر في 2019. وقد فصل قايد صالح العديد من كبار الضباط، وعين رجاله في مواقع رئيسية، مما أضرّ بلعبة توزيع الغنائم التي تسمُ سياسة البلاد. وترتبط المعارك التي تدور بين الحكام أساسا بمكاسب عقود النفط والغاز المهمة أو غيرها من العقود الصناعية أو عقود الأسلحة. فلماذا تفوز شركة توتال الفرنسية بالعقد وليست أوكسيدنتال الأميركية؟ ولماذا يشتري رجال الدرك فجأة أحدث سيارات بيجو ورينو بينما هم بالفعل مجهزون أكثر من اللازم بسيارات نيسان ومرسيدس؟ إن للمقتنيات في الاقتصاد الجزائري الغني بالنفط والغاز أهمية أكثر من المعارك الأيديولوجية.

وفي نفس الوقت يشير اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء المتنازع عليها، سواء تبعتها بعض الدول الأوروبية في النهاية أم لا، إلى انتكاسة دبلوماسية جزائرية في المنطقة؛ حيث عانت وزارة الخارجية، مثل العديد من الوزارات الأخرى في الجزائر العاصمة، من عشرين عاما من سوء الإدارة والفساد في عهد بوتفليقة. ولم يكن قطاع النفط والغاز في أيدٍ غير كفؤة من قبل. ويتلاشى جيل من كبار موظفي الخدمة المدنية الماهرين أو يذهبون إلى المنفى ليحل محلهم أناس أقل كفاءة. ويتحدث القادة عن تنويع الاقتصاد بعيدا عن الهيدروكربونات ولكن هذا لا يعتبر أكثر من محاكاة ساخرة اقتصادية للذات. وقد يكون الجنرال نزار والجنرال شنقريحة من المحترفين، لكن لم يعطيا (ولا توفيق مدين) الانطباع بأنهما مهتمان، ناهيك عن فهمهما للاقتصاد.

وسيضطر المراقبون، بينما يقرأون أوراق الشاي بعد الانتخابات العامة في 12 يونيو المقبل، إلى الاكتفاء بما إذا كانت الأحزاب الإسلامية -أو شبح جبهة التحرير الوطني- قد “كسبت” أو “خسرت” الأصوات ومن هم “المستقلون” في الاستطلاع الذي ستتم مقاطعته على نطاق واسع.

ولئن لمّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاعتراف بما ارتكبه الاستعمار الفرنسي بحق الجزائريين، حين قال في نوفمبر الماضي إنه سيفعل كل شيء “لمساعدة الرئيس الشجاع تبون”، إلا أنه تلقى توبيخا من شخصية الحراك الكاريزماتية كريم طابو الذي قال “لا نتوقع أي تعبير عن الدعم من فرنسا، لكن الدعم العام لأحد أكثر الأنظمة استبدادا وعداء للحرية في المتوسط ​​يظهر سوء نيتك ونفاقك فقط”.

وما نستنتجه هو أن السياسة الفرنسية تجاه الجزائر قد فشلت فشلا ذريعا. وستستأنف لعبة الدمى العثمانية القديمة، الكاراكوز. وبعد الانتخابات سينسى المجتمع الدولي، وليس أقله الولايات المتحدة التي وضعت شمال أفريقيا على الرف، الجزائر حتى العثرة أو الحادثة التالية. وستبقى أكبر دولة في أفريقيا -وثاني أكبر جيش في القارة- كما كانت في السنوات الأخيرة عملاقا مثقلا يكافح من أجل الشرعية.

6