ملوك الجزائر غير المتوجين: كيف تحكمت أسرتان يهوديتان بتجارة البحر المتوسط

رغم الوجود القديم لليهود في شمال أفريقيا وانتمائهم إليه واندماجهم في نسيجه الاقتصادي والاجتماعي، ورغم لعبهم لأدوار سياسية مهمة في بلد مثل الجزائر، إلا أنهم متهمون بشكل بات يعتبر حكما مسبقا بأنهم وقفوا مع الاستعمار، وتحالفوا معه، وتحتاج هذه النظرة إلى إعادة قراءة التاريخ للوقوف على تفاصيل كثيرة تساعدنا حتما على تبني الحقائق، وهذا ما بحثت فيه المؤرخة والكاتبة جولي كالمان.
كانت الجزائر في القرن الـ18 موطنا لعائلتين يهوديتين ازدهرتا مع توسع فرنسا في شمال أفريقيا. وفي هذا الصدد تبحث المؤرخة جولي كالمان في كتابها “ملوك الجزائر: كيف شكّلت عائلتان يهوديتان عالم البحر المتوسط خلال الحروب النابليونية وما بعدها”، تاريخا مجهولا عن عائلات يهودية اختفت من المدونات التاريخية.
تعود الحياة إلى اسمي بكري وبوشناق بقصة صعود وسقوط عائلتين يهوديتين مقيمتين في الجزائر العاصمة من 1774 إلى ما بعد 1830، حين استولت فرنسا على المدينة وبدأت غزوها للجزائر في عملية استمرت خمسين عاما قبل أن تبسط سيطرتها الكلية على البلاد.
ولاحظ المؤرخون قبل الكاتبة جولي كالمان اختفاء هؤلاء اليهود السفارديم الذين كانوا لاجئين من محاكم التفتيش إلى الجزائر، بعد أن هزم الملكان الكاثوليكيان (الزوجين فرناندو الثاني ملك أراغون وإيزابيلا الأولى ملكة قشتالة) آخر مملكة مغاربية في إسبانيا (غرينادا، في 1492) من معظم روايات أوروبا الحديثة المبكرة وغرب البحر المتوسط.
أدوار اليهود
توجه العديد من اليهود السفارديم في البداية إلى البرتغال، ثم هولندا والإمبراطورية العثمانية، وخاصة إسطنبول. كما انتقل الكثيرون إلى مدينة ليغورن التوسكانية (لِفُرنة، أو ليفورنو) بعد أن أصدر دوق توسكانا الأكبر فرديناند الأول دي ميديشي ميثاقا لطمأنة جميع الأجانب الراغبين في الاستقرار في الميناء بحقوق وامتيازات واسعة.
ولعب يهود ليغورن دورا بارزا في التجارة بين إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وتونس والجزائر في القرنين التاليين. وأصبحت المدينة موطنا لثاني أكبر جالية يهودية في أوروبا الغربية بحلول منتصف القرن الـ18.
أصبحت الجزائر إلى حد بعيد أقوى ما عرفه الأوروبيون باسم مدن الساحل البربري. وكانت مقاطعة مستقلة للإمبراطورية العثمانية، وصل قراصنتها إلى ذروة قوتهم في أوائل القرن الـ17، حيث داهموا سواحل ديفون وكورنوال وأيرلندا وحتى أيسلندا بانتظام.
وكانت أهمية الجزائر بالنسبة إلى فرنسا وإسبانيا، وحتى المملكة المتحدة بمجرد افتكاكها السيطرة على جبل طارق من إسبانيا في 1704، تتمثل في إمداداتها من القمح واللحوم حين يتدنّى المحصول على شواطئ المتوسط الشمالية.
وتلاحظ مؤلفة الكتاب، الذي نشرته مطبعة جامعة برينستون، أن “لمدة خمسين عاما، من عام 1740، كان تسعة أعشار القمح الذي يصل إلى مرسيليا للتوزيع في جميع أنحاء فرنسا من أصل جزائري”. وكان الجيش الفرنسي الذي غزا إيطاليا بقيادة الجنرال بونابرت في 1798 يتغذى على الحبوب الجزائرية. وكان عدم دفع جزء من الأموال المستحقة لداي الجزائر هو ما أدى إلى الغزو الفرنسي سنة 1830 بشكل غير مباشر. وكان الفرنسيون طوال هذه الفترة حريصين على منع الآخرين، وخاصة البريطانيين والإسبان، من شراء الحبوب.
وكان الأوروبيون بالكاد ممثلين في الجزائر العاصمة، على عكس إسطنبول وبلاد الشام. وكان لهم بيت تجاري فرنسي واحد ولا يكاد يوجد أثر لأي تاجر هولندي أو إنجليزي. وكتبت كالمان أن “هذا الافتقار إلى المنافسة من المسيحيين المحليين والأوروبيين يعني أن اليهود مثل عائلة بكري يمكن أن يشغلوا مساحات متعددة في التسلسل الهرمي الاقتصادي والسياسي”. وكانوا من الداخل والخارج، وفي الكثير من الأحيان مقدمين (رؤساء الجالية اليهودية التي أتاحت لهم الوصول إلى النخبة). وتاجروا نيابة عن الداي ومسؤوليه، مما خلق نوعا من الخلط بين المصالح الخاصة وشؤون الدولة ومكّنهم من اللعب على الجانبين.
ملوك الجزائر
غالبا ما خلّفت الديون التي لم يسددها التجار الأوروبيون خلافات دبلوماسية واستيلاء على السفن الأوروبية. وعمل العديد من أفراد عائلة بكري دبلوماسيين رسميين للداي. لكن المؤلفة تشير إلى أن المنصب كان ضعيفا للغاية لأن حامله “لم يكن محميا ولم يكن يتلقى مكافأة إلا إذا ظل شريكه التجاري النخبوي في السلطة”.
وفي أواخر القرن الثامن عشر في الجزائر العاصمة، كان من الممكن أن يستمر ذلك سنوات، أو أشهرا في أسوأ الأحوال، حيث أصبحت اغتيالات الحكام أكثر تواترا.
تراجعت القرصنة في القرن الـ18 بسبب الوجود البحري البريطاني الأكبر وحقيقة تفوق السفن الفرنسية والبريطانية على السفن الجزائرية.
لكن كالمان كتبت أنها استعادت بعضا من بريقها بعد 1789، “مع تقدم الحروب النابليونية، وربح الجزر في البحر المتوسط وخسارتها، كان لا بد من إعادة التفاوض على المعاهدات باستمرار. تطلبت كل معاهدة جديدة تقديم هدايا فاخرة بانتظام، ويمكن أن يعمد الداي إلى رفض أي شيء يعتبره غير فاخر بما فيه الكفاية. كان أفراد عائلة بكري موجودين دائما في خضمّ هذه المعاملات، يديرون الشؤون المالية والدبلوماسية”.
وكانت لهذه اللعبة مخاطرها الخاصة لاسيما حين يتصادم أفراد الأسرة. وخصص القناصل الأوروبيون في الجزائر الكثير من الوقت للتواصل مع مختلف أفراد عائلتي بكري وبوشناق، ومناقشة الإستراتيجيات وعقد الصفقات.
ومكّنت الأعمال العدائية بين بريطانيا وفرنسا في عهد نابليون من تكوين ثروات. وكان أول قنصل أميركي في الجزائر سنة 1785، ريتشارد أوبراين، هو الذي أطلق على العائلتين اسم “ملوك الجزائر”.
وتبرز الرسائل بين شارل موريس تاليراند، وزير خارجية نابليون، وأفراد الأسرة اليهودية الممتدة أنهم لم يكونوا مرتاحين في الأنظمة المؤسسية مثل فرنسا، حيث لم تحدد الهدايا والعلاقات الشخصية كل شيء.
عالم جديد
مع خروج أوروبا من الحروب التي اندلعت من 1793 إلى 1815، أشار المؤرخ جيمس ماكدوغال في كتابه الذي يحمل عنوان “تاريخ الجزائر” إلى أن “من المناسب للقوى الأوروبية أن ترى القراصنة المسلمين بقايا بربرية من عصر سابق. كانت بريطانيا وفرنسا تتعاونان، ولم تعودا في حالة حرب كما كانا طوال القرن الـ18 وأوائل القرن الـ19. ورأى النظام الأوروبي المستعاد الذي انبثق عن مؤتمر فيينا نفسه يتقدم في السلام الدولي والحكومة العقلانية و’الحضارة’، ويحتوي الثورة بجرعة عقلانية من الليبرالية ويبشر بـ’الحرية’ شعارا خاصا به”.
كان ينظر إلى قراصنة الجزائر على أنهم بقايا “بربرية” من عصر سابق. وتفاوض اللورد الإنجليزي إكسماوث في 1816 على شروط السلام مع الجزائر نيابة عن سردينيا ونابولي، التي تضمنت الإفراج الحر عن أسرى جبل طارق والمالطيين بصفتهم رعايا بريطانيين.
وكتبت كالمان “كانت هذه الدبلوماسية لا تزال معروفة على الطراز القديم، لكن الرأي العام الإنجليزي لم يكن معجبا بها”. وقصف إكسماوث بعد ستة أشهر، في أغسطس 1816، الجزائر العاصمة وطالب بإلغاء العبودية، وإعادة جميع العبيد المسيحيين وسداد التعويضات، وهو إجراء حازم مناسب في نظر الأوروبيين، نيابة عن الدول “المتحضرة” ضد دولة “خارجة عن القانون”.
وكان هذا بالفعل عالما جديدا ولم تنج تونس من نفس المعاملة التي تلقتها الجزائر العاصمة إلا لأن زوجة جورج الرابع (ملك بريطانيا العظمى وإيرلندا) المنفصلة عنه، كارولين من برونزويك، سافرت إلى نابولي ثم أبحرت إلى تونس مع عشيقها الإيطالي بارثولومبير غامي هربا من الملل وعدم الرضا عن الحياة في لندن. وعندما اقترح عليها أن تغادر لمنح إكسماوث حرية التصرف، يقال إنها أجابت بأنها لا تنوي قطع عطلتها وأضافت “أجد البربر أقل بربرية بكثير من المسيحيين”.
وتغيّر الكثير… إلإ أن اليهود كادوا يختفون من شمال أفريقيا حيث عاشوا وازدهروا على مدى ألفي عام، باستثناء بضعة آلاف من الأشخاص في تونس والمغرب.
لقد قدمت لنا جولي كالمان قراءة تاريخية عميقة حول عائلتين يهوديتين بارزتين وكيف تمكّنتا من الازدهار في عالم إسلامي بطريقة لا يمكن تصورها اليوم.