"بلاغة المكان" قصائد عمرها ثلاثون عاما تحكي عن سوريا اليوم

يقدر الشاعر أن يتنبأ بمصير شعبه، وربما يبدو للبعض أن في هذا نوعا من المغالاة، ولكن له ما يثبته، فالكثير من الشعراء تمكنوا بحساسيتهم المفرطة تجاه البشر والحجر والزمن والأمكنة وتجاه الأحداث التي تطرأ من خلق عوالم شعرية تنبئ بمآلات شعوبهم، إما في طريق التحرر أو في منحدر التاريخ، وهو ما تؤكده قصائد علي سفر التي كتبت قبل ثلاثين عاما.
دمشق- الشعر الحقيقي الخارج من روح وقادة ووعي والتحام بالحياة من أصغر أجزائها إلى أكبرها، لا يمسه الزمن ولا يبلى معه، هكذا هي قصائد علي سفر في كتابه الشعري “بلاغة المكان” الذي أعاد إصداره مؤخرا في طبعة جديدة.
صدر الكتاب لأول مرة في مطلع التسعينات في واقع عربي مأزوم ومثخن بالصراعات، وحاول من خلاله الشاعر ترسيخ علاقته بالمكان وكأنه يعيد قراءة عناصره. أمكنة عديدة برمزياتها نجدها عناوين للقصائد مثل “مقام بولس الرسول”، “الجامع الأموي”، “محطة الكرنك”، “الدويلعه”، كنيسة المريمية”، “مسرح القباني”، “حارة الزيتون” وغيرها. فهل كان الشاعر في إعادة ترتيبه للمكان السوري يعي ما سيحدث بعد ثلاثة عقود من دمار في بلد أثخنته الحرب؟
التمسك بالمكان

"بلاغة المكان" مفتاح وضعه علي سفر لذاته
في تقديمه لكتاب “بلاغة المكان” يقول الكاتب والشاعر السوري إبراهيم الجبين “حين صدر هذا الكتاب أول مرة في العام 1994، بلون ترابي ناصع، وغلاف رهيف بكرسي وحيد نحيل رسمه يوسف عبدلكي، كان جيلنا الشعري في سوريا يواجه أقداره الجديدة بعد منعطف ثمانينات القرن العشرين، تلك العشرية الباردة اللاهبة في الوقت ذاته. سنوات ثقيلة لم يكن أمام أصحاب التجارب الشعرية السورية، آناءها، إلا أن يجعلوا منها أكثر من مختبر، ليس للمزيد من القراءة وحدها، ولكن أيضاً لمكابدة الصمت، وتجاوز اليأس، واصطياد الجملة الضالة في آفاق الكتابة”.
ويلفت الجبين إلى أنه أمام عيني شاعرٍ مثل علي سفر تلاقت خطوط عدة، منها ما هو قادم من تلك البلدة الوادعة على تخوم البادية والتي وصل منها قبله شعراء مثل إسماعيل العامود ومحمد الماغوط، ويعني “السلمية” وقلعتها التي لم تتوقف عن بث روحها الثورية في عروق أبنائها، ثورة في الحياة والفكر وثورة في التدوين والخلق. وخطوط منها ما هو قادم من عتبات دمشق، حيث عاش علي سفر طفولته وصباه على مقربة من الكنيسة المريمية وسور دمشق وبابها الشرقي.
ومنها أيضا خطوط لا يراها الآخرون تربطه بذلك المنجز الذي حققه من فكروا بعلمية الكتابة في العالم، من دو سوسير وتلاميذه إلى رولان بارت وتزفيتان تودوروف، عبوراً إلى شعراء لم يكن من بينهم من تأثر نظراء علي سفر بهم، بينما كان هو بهدوئه يختار، على سبيل المثال، شاعراً مثل يانيس ريتسوس العصي على التقليد.
ربما كان تمسك سفر بالمكان وليد انهيارات هائلة على مستوى الشرق الأوسط، وبداية عصر جديد في سوريا لا يخلو من شعراء ولكنه كان فقيراً بالمشاريع الشعرية، وصدمة الوعي العربي بغزو العراق للكويت وحرب الخليج وزوال الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية والتفكك الكبير لجميع الأحزاب السورية المعارضة، وظهور التطرّف الديني، والدعوة ذات وجهين للشعراء الجدد وقتها بـ”عليكم بالبساطة، دعوا الأفكار الكبيرة، كالحرية والأمل والعدالة والغد جانباً، واكتبوا عن البنطال والحذاء محلول الرباط والجنس، ولا بأس بالخواطر البدائية”.
لذا كان “بلاغة المكان” حين صدر انحيازاً للمكان بوصفه أكثر من مجرد جغرافيا، فكانت نصوصه نفوراً من الوصفات الجاهزة بوصفها رديئة في غالبها، وبحثاً عن تفاصيل جديدة في مسار حضاري مشت عليه خطى لم يزل أثرها شاخصاً للعيان، لكن فقط لمن أراد أن يبصر ويرى بعيني قلبه أولاً. يقول الشاعر “مضى وقتٌ وأنتَ هناك، تظن لكَ موعداً، قادمٌ ما يأتي، وترى من بعيدٍ وإثرَ الظلال الآيبة وجهاً، يعلمك الحبَ والموتَ، يزور معك الأمويَ والحكايةَ في النوفرة، ويلغي مواعيده للسفر”.
كأنه يصف ظلالاً راجعة تعبر الحارات الحجرية القديمة، حيث رذاذ دائم مقيم من ماء الفيجة الدمشقي السحري، رذاذ كغيم غير مرئي يلامس وجهك وأنت تتقدم نحو ذاك الوجه الذي تراه.

كتاب ينحاز للمكان بوصفه أكثر من مجرد جغرافيا
ويلفت الجبين إلى أنه ليس بلا دلالة أن يضع علي سفر كلمات شاعر سانت لوسيا ديريك والكوت عن حلم العقل الذي استولد وحشه، علامة على الصفحة الأولى من “بلاغة المكان”، والكوت الذي كتب يوماً:
“الشرفات، فيها صفحات البحر/ ما هي إلا كتاب تركه مفتوحاً/ سيدٌ غائبٌ/ في منتصف حياة أخرى/ أبدأ هنا من جديد،/ أبدأ حتى يصير هذا المحيط/ كتاباً مغلقاً، ومثله مثل مصباح،/ تخبو فتائل القمر الأبيض”.
هي ذات العلاقة مع المكان حين لا يعود الأخير جغرافيا، بل هو فضاء للمعرفة والشعور وللحلم أيضاً، مثلما يكتب علي سفر في غلالات الجامع الأموي “الحمام الهارب المصقول كعين الرمل./ ثمةَ عريٌ يناسبُ البخنقَ واللغة،/ أجدُهُ وليس لي سوى الدخول،/ أتبعُ الفاصلةَ الموسيقية الأولى وراء خطو المؤذنِ حين يدنو شيئاً فشيئاً من القرار/ قبة النسرِ والطيف الأبدي للإله”. أو مثلما يفعل حين يرى ذاته على كسور مقبرة الدحداح “رداءً أحمرَ علّق بالشاهدةِ”.
أمسيات دمشق
تبدو هذه القصائد التي يكاد عمرها يبلغ الثلاثين عاماً تدوينات طازجة كتبت هذا الصباح، لكن صاحبها، من حينها، كان يستعجل الغد، وكان يبحث عن آخرة للأغصان والاتجاهات، يقول “وفي هاتيكَ البرهةِ لم تأتِ الآخرة./ عجزتْ الكنائس عنها،/ فزعتْ ومالتْ الأغصانُ كما الاتجاهات./ وقلتِ عن التقاطع إنه الملاذُ، نُحِتَ من الخشب وغطاه الطين./ لها وله الأعمدة الضوئية العابرة على طريق المطار والتقاطع الخرافي للدويلعة وطريق جرمانا،/ طفلٌ عصا والديه في يوم القيامةِ،/ وأنجزَ ما لديهِ من مهمات”.
يجعلك سفر تتذوق مرارته وأنت في المكان ذاته، وعند الزوايا المتباعدة المتقاربة من تضاريس دمشق، يجد تلك الصورة القادمة مما لم يحدث بعد “بذاءةُ رهبان الحرب لا تكفي حين تأيقنَ اللون في النافذة وتغاوتْ كنائسُ هذا البلد./ أهبطُ من اللوحةِ المتفسخةِ،/ لا معجزة ولا مجد”.
يمثل سفر جيلا شعريا لم ينج منه إلا القلة ممن عرفوا عن كثب رسالة الشعر وماهيّته، ولم ينجرفوا خلف الرداءة باسم الانتشار، ولم ينخرطوا في انحطاط اللغة الأدبية الذي بات عميقا في الذات والأفكار والقيم. وهو ما لم يقبل به الشاعر، مع أنه كان ولم يزل خياراً سهلاً لكن ليس على من يريد أن يترك أثراً في مدوّنة الشعر السوري التاريخية.
هذه القصائد التي يكاد عمرها يبلغ الثلاثين عاماً تبدو تدوينات طازجة كتبت هذا الصباح وصاحبها يستعجل الغد
الكثير من الشعراء اليوم انخرطوا في لعبة اليومي والهامشي دون وعي راسخ وبلغة مسفة وفضفاضة لا تصنع تلك الدهشة ولا تبني عالما متماسكا يمكنه أن يسمو إلى درجة الحياة بكل حمولاتها وتقلباتها وتاريخها.
و”بلاغة المكان” ربما يبدو كما يلفت الجبين “مفتاحا وضعه علي سفر لذاته، منه عبر إلى جسر من ضباب قاده إلى سحر الصورة، فكانت الكاميرا صديقة للشاعر، كما هي الكلمات. لكنه بقي جسراً طويلاً فتنته ألّا أحد يريد أن يرى نهاياته، يعبر من ‘طالع الفضة’ إلى حجارة قاسيون ودرجات النوفرة. كتاب متحرّر من بعده الزمني الذي كتب فيه”.
وكما يبين الجبين فإنه لا يدعو شعرٌ كالذي تقرأه في “بلاغة المكان” إلى الحزن، ولا إلى حنينٍ غامر، مثلما يفعل الشعر السوري زمن المأساة. لكنه يتركك تتساءل عن ذلك الخبز البهي في تلك الأمسيات الشتائية البعيدة البعيدة في دمشق. هل يعود يوماً ليعيد بلاغة ذلك المكان؟