"حرافيش" نجيب محفوظ تثير الجدل بعد 45 عاما من صدورها

من يذكر الكاتب المصري نجيب محفوظ سيذكر حتما الحارة المصرية التي ارتبطت بها جل أعماله. ولعل روايته “ملحمة الحرافيش” هي الأكثر شهرة حيث أشادت بها جائزة نوبل في مسوغات منحه هذا التتويج الأدبي العالمي. لكن وإن لم يحدد محفوظ مكان الحارة التي دارت فيها أحداث الحرافيش، ولا زمنها بدقة، فإن هناك ادعاءات كثيرة تقول بأنها حارة موجودة فعليا، وهو ما أثار استغراب محفوظ نفسه قبل رحيله.
القاهرة- رغم شهرتها تظل حارة الحرافيش الحقيقية، مجهولة في مصادر الأدب والنقد وأكثرها التي تناولت أدب الكاتب المصري نجيب محفوظ، ويظل الحديث عنها وعن وجودها الحقيقي معلقا فوق باب الوداع في الجزء الجنوبي لقلعة صلاح الدين مثيرا للدهشة.
فقد ألف محفوظ رواية “ملحمة الحرافيش” عام 1977 في المرحلة الرمزية أو ما بعد الواقعية في أدبه، والتي عدها البعض واقعية ملحمية ممتزجة بالصوفية. فكل الروايات التي حملت أسماء أحياء وحارات موجودة في جغرافية المكان الذي استقى منه معظم أعماله في حي الجمالية، مثل: قصر الشوق، بين القصرين، السكرية، خان الخليلي، وزقاق المدق..
محفوظ والحارات

رواية واقعية ملحمية ممتزجة بالصوفية
وعندما سئل محفوظ عن استخدام اسم حارة الحرافيش في عنوان روايته الشهيرة، اندهش لوجود حارة بهذا الاسم، لأنه كان يتناول في روايته التي أشادت بها حيثيات جائزة نوبل للأدب عام 1988، المهمشين والفقراء وعلاقات بناء السلطة في الحارة المصرية.
يقول الأديب والروائي المصري محمد الشاذلي “إن الحارة وهي موجودة في القلعة لم تكن أبدا في محيط الأماكن التي تناولها نجيب محفوظ في أدبه، وهي متواجدة كلها في حي الجمالية في منطقة الحسين في قلب القاهرة الفاطمية، بينما الحرافيش حارة حقيقية لم يعرفها محفوظ، الذي استغرب من وجود حارة بهذا الاسم، هو الذي لم يكن يدير حركة الأحداث في المكان لربطه بالتطور السياسي والاجتماعي في مصر”.
ويضيف الشاذلي مؤلف كتاب “أيام مع نجيب محفوظ” – وهو تحت الطبع بمطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب – “أنه وعلى الرغم من أن علي مبارك في ‘الخطط التوفيقية’ ذكر اسم الحارة ومكانها بالتفصيل، فإن محفوظ لم يكتب عنها على وجه التحديد”.
ويتابع “لقد قرأت الرواية مرتين ولم أعثر أبدا على ذكر كلمة حارة الحرافيش بين سطورها، ولكن تم ذكر الحرافيش ومأساتهم وانفلاتهم، والإشارة إلى أحوالهم وتقلباتهم، وأيضا إلى زعمائهم”.
ويؤكد الأديب يوسف القعيد – وثيق الصلة بنجيب محفوظ في أعوامه الثلاثين الأخيرة – شهادة الأديب محمد الشاذلي حول الحارة المجهولة، مشيرا إلى أن محفوظ قال له إن كلمة الحرافيش معناها “الحارة مفيش” بالعامية المصرية؛ لأن الفتوة عندما يظهر في الحارة كانت الناس تختفي منها تمامًا.
ويضيف إن “الحارة في أدب محفوظ موجودة في أرض الواقع المصري حتى الآن وشهادة الشاذلي دقيقة بوجودها باسم ‘حارة الحرافيش’. ومحفوظ كان مولعا بالحارة لأنه قضى سنوات عمره في منطقه الجمالية، فكتب عن أحيائها، وكذلك الزقاق، زقاق المدق وخان الخليلي؛ والزقاق عبارة عن حارة صغيرة ومغلقة من الداخل”.
ويضيف الشاذلي أن محفوظ في قصصه ورواياته خصوصا في مرحلته الواقعية كان يكتب من وعن الحارة وتفاصيل العلاقات الاجتماعية فيها وتطلعات ناسها، وارتباط ذلك بالأوضاع السياسية في مصر، والتي يفهمها جيدا، هو الذي لم يخرج من الحارة أبدا، ربما أطل ببعض الأعمال أو وضع ارتباطات بالإسكندرية، لكن الخروج من حارات الجمالية إلى مياه المتوسط كان بحساب، وكان بالضبط بعد تجاوز المرحلتين التاريخية والواقعية في رواياته، إلى المرحلة الفكرية الفلسفية وأشهر أعمالها “السمان والخريف” و”الطريق”. لكن ملحمة الحرافيش لم تكتب عن الحارة الحقيقية إنما شحنت بفلسفة وتصوف ورموز، تعبر عن فكر محفوظ نفسه في رفض فكرة الحاكم المطلق.
ويقول الناقد حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، “إن ارتباط محفوظ بالحارة المصرية ارتباطٌ أزلي بالمكان وولع لا حد له، فهي جزء من البناء الأدبي لصرح نجيب محفوظ الخالد”. مشيرا إلى أنَّ “البيت القديم” ظلَّ مكاناً وزمناً، يُمثِّلُ هاجسا مسيطرا، أو “ثيمة” متكررة، تتردد في روايات محفوظ، وتُسهم إلى حد بعيد في صياغة ملامحها وعوالمها.

محمد الشاذلي: لقد قرأت الرواية مرتين ولم أعثر أبدا على ذكر كلمة حارة الحرافيش بين سطورها
ويؤكد الناقد أن مجموعَةً من روايات محفوظ التي يتناول فيها البيت القديم عديدة مثل “السراب” 1948، “الثلاثية” 1956 و1957، “أولاد حارتنا” 1959، “السمان والخريف” 1962، “ميرامار” 1967، “قلب الليل” 1975، “أفراح القبة” 1981، “الباقي من الزمن ساعة” 1982، “يوم قتل الزعيم” 1985.
ويرى حمودة أنَّ تلكَ الفكرة تبدو مركزيَّةً في بعض الروايات وغير مركزية وأحيانا هامشية في بعضها الآخر، كما تتنوَّعُ ملامح البيت القديم، وصياغاته، وتتعدد ألوان العلاقة به، وتتباين صور أولئك الذين يعيشون فيه، أو ينتمون إليه، أو يستحضرونه من مكان آخر أو من زمن آخر، وأيضا قد تتغاير مواقعهم إزاءه ودرجة متانة الروابط التي تصلهم به أو تصله بهم، ورغبتهم في العودة إليه أو الإمعان في النأي عنه.
التصوير السينمائي
أخيرا الفرق كبير بين حارة الحرافيش في أدب نجيب محفوظ والحارة الموجودة بالفعل في منطقة الجمالية، بالقرب من دار المحفوظات المصرية. تبرزها جولة قمنا بها داخل الحارة تبدو، هادئة ودون “فتوة”، منازل قديمة، وأخرى في طريقها للترميم. هي حارة قديمة جدا، تتخللها بيوت مهدمة، لكن من الأكيد أنها كانت في عز ازدهارها في قديم الزمان، والآن هناك اتجاه لتطويرها ضمن خطة القاهرة الفاطمية .
ويقول وليد سعد الناقد السينمائي المصري إن التصوير الحي داخل أي مكان هو مسألة ليست بتلك السهولة التي قد يتخيلها البعض، وذلك ردا على سؤال حول عدم قيام السينما المصرية بالتصوير داخل حارة الحرافيش الموجودة بالفعل في منطقة الجمالية.
ويضيف أن عملية التصوير السينمائي تحتاج إلى بيئة وظروف عديدة، قد يصعب توافرها في الواقع العملي، ولذلك فأنت تعمل على توفيرها من خلال الأستوديو؛ فالتصوير عملية شاقة وتحتاج إلى “حارة” لها مواصفات عديدة ومجالات وزوايا معينة تعطي إحساسا بالتصوير في حارة حقيقية، وهو أمر يرتبط بوضع الكاميرات والمعدات، واختيار الزوايا المضبوطة للتعبير عن إحساس المخرج.
ملحمة الحرافيش لم تكتب عن الحارة الحقيقية إنما شحنت بفلسفة وتصوف ورموز، تعبر عن فكر محفوظ
ويؤكد سعد أن التصوير في مكان حقيقي مشكلة كبيرة، لأنك لا تستطيع السيطرة على الوضع بالكامل، حركة الناس، سكان المنطقة، الإضاءة، لأن المسألة صعبة هذا من ناحية، ومن ناحيه أخرى اللوكيشين الحقيقي صعب في مستوى التنفيذ الإنتاجي؛ فهو يحتاج إلى تكلفة كبيرة، بعكس الحال في “الأستوديو” حيث يمكن السيطرة على عملية التصوير برمتها.
ويضيف الناقد السينمائي بأن الأصل هو أن السينما عندما تقدم الواقع فهي تقدم “إيهاما فقط”، والأمر يتوقف على فريق العمل بأن ينجح في نقل الصورة وإعطاء الإحساس بذلك للجمهور، وقد تقوم بالتصوير في الواقع لكنك لا تستطيع أن تعطي للجمهور هذا الإحساس، وبالتالي يبقى الأستوديو الملاذ الحقيقي الذي تستطيع من خلاله نقل الواقع بصورة أو بأخرى.
ويستشهد سعد على سبيل المثال بفيلم “الجوع” المأخوذ عن “ملحمة الحرافيش”، وهو ديكور مبني داخل بلاتوه؛ يقول “أنا حضرت تصويره ومن خلاله، كانت هناك سيطرة تامة على المشاهد التي أمكن من خلالها نقل الإحساس الحقيقي بأن هذا المكان هو المكان الذي يعبر عن الواقع بالفعل”.
ويشير إلى أنه حتى وإن توافرت “حارة الحرافيش” في الواقع -كما يقول البعض – وحتى لو ظهرت هناك فكرة لإعادة إنتاج العمل مرة أخرى بشكل أو بآخر، كغيره من الأعمال الدرامية التي أُعيد إنتاجها، فسوف يظل الأمر غاية في الصعوبة نتيجة التغييرات التي طرأت على المكان اليوم، والتي قد تؤدي إلى صعوبة في التصوير فيه، فنحن الآن في 2021؛ والمعالم مختلفة، والمحيط حول المكان صعب إخفاء كل ما فيه، من حركة وسيارات وسكان.