أسر مصرية تركب المخاطر على عجلتين سريعتين

يبدو مشهد السرعة القياسية التي ترقص بها الدراجات النارية وسط شوارع القاهرة وهي تحمل أسرا بكاملها مشهدا مألوفا للمصريين حيث لا يعبأ أصحابها بالازدحام، فبجانب الأرصفة تتلوى هذه المركبات ذات العجلتين كالثعابين، رغم حملها خمسة أفراد على ظهرها أو أكثر، دون اكتراث بما يمكن أن تخلفه من خسائر في حال وقوع الحوادث.
يتوقف العقل كثيرا أمام حركة الدراجات النارية بالشوارع المصرية ليس بسبب سرعتها الجنونية فقط، لكن في كيفية استيعابها حمولة تكفي سيارة عائلية، ومدى الشعور بالأمان والاتزان مع وضع طفل صغير أمام السائق واثنين في المنتصف وثالث على أرجل والدته في الخلف.
يحمل الاعتماد على الدراجات النارية في مصر أكثر من مأرب للأسر ذات الدخل المتوسط، فسعر المستعمل منها لا يتجاوز 15 ألف جنيه (أقل من ألف دولار)، واستهلاكها المحدود للوقود يجعلها وسيلة مثالية لتنقلهم.
اقتني الشيخ محمد السيد، مفتش بوزارة الأوقاف، دراجة نارية قبل عام، لتوصيل أبنائه إلى المدرسة ومساعدته في مهام الإشراف على المساجد التي تزايدت أعباؤها مع تفشي كورونا وتطبيق الإجراءات الاحترازية.





قال السيد لـ”العرب” إنه ظل يعتمد على مركبات التوك توك لسنوات، لكن سواقها رفعوا تعريفة الركوب إلى 15 جنيها ما يكبّده عبئا ماليا في الذهاب والعودة، وكان البديل الدراجة النارية التي استطاعت توفير جزء من نفقاته، انعكس على مستوى معيشة الأسرة وتلبية مستلزمات الأبناء.
وزاد الاعتماد على الدراجات كوسيلة نقل العائلة إثر انتشار الفايروس، فبصرف النظر عن مخاطر قيادتها، إلا أنها تمنع الاختلاط في وسائل النقل الجماعي.
وبلغ إجمالي الدراجات النارية التي صدرت لها وثائق تأمين إجباري خلال العام الماضي نحو 163.5 ألف دراجة جديدة مختلفة الطرازات والأنواع، وهو رقم ضخم جاء بعد عام واحد فقط من تراجع مبيعات تلك المركبات بواقع 33 في المئة.
وتمثل هذه الدراجات وسيلة أساسية للأسر الريفية أيضا، خاصة التي تقطن في مناطق نائية، وأصبح بعض الشباب يشتغل عليها كوسيلة نقل بمقابل.
تعتبر الدراجة لمحمود حجاج الذي يقطن بحي دار السلام في جنوب القاهرة، ضرورة لاعتبارات تفوق إرادته أو رغبة أسرته، فعرض الشارع الذي توجد فيه وحدته السكنية لا يزيد عن مترين ونصف لا يسمح بدخول سيارة، ودراجته وسيلة مثلى للتنقل ويستطيع الاحتفاظ بها بسهولة في مدخل العقار الذي يقطنه.
يتوجه حجاج بصحبة ابنيه وزوجته إلى زيارة باقي أفراد العائلة في مدينة قها بمحافظة القليوبية المتاخمة للقاهرة عبر دراجته الصينية غير عابئ برحلة طويلة يقطعها عبر الطريق الزراعي السريعة الممتلئة بالشاحنات والحافلات، قائلا، “الخطر في كل مكان.. قالوا إن السكك الحديدية الأعلى أمانًا.. لكنها شهدت ثلاثة حوادث خلال شهر واحد”.
ورغم عدم وجود إحصائية رسمية حول عدد حوادث الدراجات النارية في مصر، إلا أن زيارة مستشفيات الطوارئ توضح خطورة هذه المركبة، فالعدد الأكبر من النزلاء تعرضوا لكسور في الجسم بسبب الدراجات، وإهمال مستخدميها الإجراءات الاحترازية، مثل الخُوذ لحماية الرؤوس، وشريحة كبيرة من المتضررين هم من الأطفال والمراهقين الذين كانوا بصحبة آبائهم.
وفي مايو الحالي، لقيت أسرة كاملة مصرعها في حادث انقلاب دراجة بدلتا مصر بعد اختلال توازن قائدها، بعد شهرين فقط من مصرع سيدة وابنيها في تصادم دراجة في جنوب مصر بشاحنة ثقيلة.
وتتسبب السرعة الكبيرة في اختلال توازن قائد الدراجة النارية التي يقترب وزنها من 200 كيلوغرام منفردة دون حمولة، وكلما زاد عدد مستقليها ارتفع إجمالي الوزن، وزاد احتمال وقوع المزيد من الحوادث.
وأكد جمال فرويز أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة أن إقبال الأسر على الدراجات النارية مرتبط بأسباب متعددة تتراوح بين حسابات اقتصادية صرفة، أو أسباب نفسية اجتماعية مرتبطة بثقافة التقليد وغياب الوعي الثقافي، فشراء شخص دراجة والتنقل بها يدفع الآخرين للتقليد حتى لو كانت ظروفهم أفضل.
وتحمل هذه الدراجات لدى البعض قدرا من التحرر ومتعة المخاطرة، خاصة للمتزوجين حديثا، فالتصاق الزوجة بزوجها على متن دراجة منطلقة بسرعة تتضمن بالنسبة لها مشاعر تتفوق على المخاطرة.
ولم تمنع كثرة الحوادث من تحجيم استخدامها في ظل اعتبار التعرض للأذى “قضاء ونصيبًا”، سيقع مهما حاول الإنسان تلافيه، وليس بالغريب أن يزور قائد دراجة نارية المستشفى ذاته أكثر من مرة بكسور مختلفة، لكنه لا يتخلى عنها، وبعضهم يتمادى ولا يخشى الموت من الأساس.
وأوضح فرويز لـ”العرب” أن الاعتياد عامل حاسم أيضًا، فمن تعوّد على قضاء مصالحه بسرعة وتخطي الزحام بالشوارع لن يتقبل المكوث في وسيلة نقل جماعية فترات زمنية طويلة، كما أن البعض لديه تعلق شديد بالدراجات، فتصبح هواية للعائلة بأسرها، والتعلق بأمر ما يجعل الإنسان لا يتخلى عنه مهما تعلق بحوادث أو مخاطر.
ويمنح الازدحام المروري في شوارع القاهرة في أوقات الذروة شعبية للدراجات النارية مع تبني الكثير من الشركات أجهزة الحضور الإلكترونية، ووضع لائحة خصومات تصل إلى ربع الأجر اليومي في حال تأخر الموظفين.
إجمالي الدراجات النارية التي صدرت لها وثائق تأمين إجباري خلال العام الماضي بلغ نحو 163.5 ألف دراجة جديدة
واضطر محمد جمال الذي يعمل في شركة تداول أوراق مالية إلى ركن سيارته واقتناء دراجة نارية للحاق بمواعيد العمل اليومية خاصة أنها ترتبط ببدء التدوال اليومي في البورصة، وتفرق الثانية الواحدة في عمله، ففيها قد تنهار أسهم وتصعد أخرى في حركات ترتبط بملايين الجنيهات.
وتلفت تحركات جمال الأنظار، فالشاب الذي يرتدي ملابس رسمية يستقل مركبته خمسة أيام أسبوعيا معه زوجته التي تعمل في الشركة ذاتها قاطعا شوارع حي شمال القاهرة وصولا إلى قلبها حيث مقر عمله، ويعودان معًا إلى المنزل في الرابعة عصرًا، وهو وقت الذروة متجاوزين الزحام المعتاد.
ويصيب الكثير من سائقي الدراجات الغرور والثقة العمياء، فيزيدون من السرعة لمعدلات قياسية مستمتعين بتجاوزهم السيارات الأغلى ثمنا، بصرف النظر عن خطورة وسائل الكبح في السرعات العالية وغياب موانع الاصطدام في دراجاتهم.
واعتاد بعض أصحاب الدراجات النارية باهظة الثمن التجول في المدن المصرية، ويحمل بعضهم الأبناء الصغار كوسيلة ترفيه عنهم لينطلقوا على الطرق السريعة بسرعات جنونية دون اكتراث بمصير أبنائهم، وبالمخاطر التي يمكن أن تنجر عن السرعة المفرطة في غياب الإلتزام بقانون الطرقات من قبل اصحاب السيارات والتوكتوك وعربات النقل الجماعي أيضا.