تسونامي الأمراض النفسية يفوق طاقة مستشفى الرازي في تونس

تشهد تونس تصاعدا مطردا في عدد المرضى النفسيين بسبب جائحة كورونا وإجراءات الإغلاق الوقائية والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية. ووجد الأطباء أنفسهم أمام حقيقة مؤلمة، وهي عجز المؤسسة الوحيدة في البلاد للأمراض النفسية عن استيعاب العدد الكبير من المرضى وحرمانهم من فرصة الحصول على العلاج وبرامج إعادة التأهيل الضرورية، ما سيزيد حالاتهم سوءا ويهدد البلاد بأزمة صحية كارثية خلال هذه الفترة.
تونس – أصبحت الأمراض النفسية الناتجة عن جائحة كورونا وإجراءات الحجر المنزلي تمثل تحديا للمؤسسة الوحيدة في تونس المتخصصة في علاج الأمراض النفسية والعصبية، بعد أن سجلت نسبة الإقبال على العيادات الخارجية التابعة لها ارتفاعا يتراوح بين 10 و15 في المئة في السنوات الأخيرة.
وحذر أطباء من موجة هائلة من “تسونامي” للأمراض النفسية نتيجة المشكلات التي تراكمت أثناء فترة الإغلاق والحجر الصحي بسبب جائحة فايروس كورونا المستجد.
وأكدوا أن تداعيات الوباء مثل العزلة الاجتماعية والقلق والتوتر والمشاكل المالية قد شكلت خطرا حقيقيا على صحة التونسيين وأدت إلى ارتفاع في حالات الطوارئ التي تحتاج إلى دعم نفسي، بينما انخفضت نسبة جلسات العلاج النفسي الروتينية بسبب الإجراءات الوقائية التي فرضها فايروس كورونا.
ولا يوجد في تونس غير مستشفى عام وحيد للأمراض النفسية بولاية منوبة في الشمال الشرقي للبلاد مسؤول عن توفير خدمات طبية لأكثر من 10 آلاف مريض يتم إيواؤهم سنويا في المستشفى وأقسام الأمراض النفسية التابعة له.
وقالت نهى بن حامد الأخصائية النفسية في مستشفى محمد الطاهر المعموري بولاية نابل (شمال شرق تونس) إن ”تداعيات كورونا والحجر الصحي أثرت بشكل كبير على الصحة النفسية للتونسيين، نظرا لما خلفته من شعور بالخوف من المجهول وعدم تعود الناس على مثل هذه الحالات من تراكم الأخبار السيئة والوحدة والضجر من الالتزام بالبقاء في المنازل وكل ذلك أدى إلى زيادة منسوب الإحباط والقلق”.
وأضافت بن حامد لـ”العرب”، “أثرت الجائحة في مرحلة أولى على المرضى الذين يعانون بطبيعتهم من اضطرابات نفسية مزمنة وازدادت أوضاعهم سوءا بسبب الحجر الصحي الشامل، لاسيما مع توقفهم عن أخذ العلاجات وإجراء الكشف الطبي بشكل دوري، كما أثرت من ناحية أخرى على أشخاص عاديين لا يعانون من أية أمراض نفسية وسببت لهم قلقا واضطرابات”.
وأشارت الطبيبة إلى أن جائحة كورونا قد ضاعفت الإدمان على استهلاك الكحول والأدوية المخدرة واستفحال ظاهرة العنف الأسري والانتحار.
ولفتت إلى أن الوباء قد أثر بصفة كبيرة على الأطفال خصوصا أولئك الذين هم في مرحلة انتقالية ويحتاجون إلى أجواء ملائمة للعب والتعلم والدراسة وربط علاقات مع أقرانهم لتعزيز نموّهم البدني والعقلي والروحي والمعنوي والاجتماعي.
وأكدت بن حامد أن حالات وصم المرضى المصابين بفايروس كورونا ورفضهم من محيطهم الاجتماعي سببت لهم أيضا متاعب نفسية كبيرة ووصل الأمر بالبعض إلى حد العزلة والاكتئاب.
وحذرت الطبيبة النفسية من عدم وجود موارد ومستشفيات كافية للصحة النفسية في تونس، مشددة على أن “مستشفى الرازي لم يعد قادرا على توفير الخدمات الصحية الكافية في ظل تزايد عدد المرضى النفسيين الذين تتطلب حالاتهم الإقامة في المستشفى والمتابعة الطبية الشاملة”.
ونصحت بن حامد الأشخاص ذوي النفسيات الهشة بتجنب متابعة الأخبار السيئة وقضاء وقت أطول في الهواء الطلق مع المحافظة على شروط السلامة وممارسة أنشطة رياضية تساعد على نسيان الوباء.
وسبق أن أشارت ريم غشام الأخصائية النفسية بمستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية خلال المؤتمر السنوي الرابع والعشرين للجنة الأخلاقيات الطبية التي انتظمت افتراضيا، إلى أن الموجة الأولى لتفشي الوباء في عام 2020 قد أدت إلى ارتفاع بنسبة 58 في المئة في عدد المرضى الذين استوجبت حالاتهم الإيواء بالمستشفيات المختصة في الأمراض النفسية، وخصوصا من الرجال.
وأوضحت غشام أنه تم إيواء أكثر من خمس وخمسين حالة بمستشفى الرازي خلال شهر مايو العام الماضي، منها 28 عملية إيواء جديدة.
وشددت على أن الاضطرابات النفسية خلال فترة الجائحة يمكن أن تكون حادة ومعيقة، وتتراوح بين حالات التوتر وما بعد الصدمة في العائلات التي سجلت حالات إصابة بكوفيد – 19، والقلق بمختلف أشكاله والاكتئاب عند المرضى القدامى وانعدام الإحاطة النفسية بالمرضى.
أرقام مفزعة
وكشفت تقارير رسمية للجمعية التونسية للأطباء النفسانيين ومستشفى الرازي عن أرقام مقلقة بشأن الانتشار الملموس لمختلف أنواع الأمراض النفسية بين التونسيين وفي مقدمتها الاكتئاب وأخطرها الفصام.
وأفاد الأخصائي في الأمراض النفسية أنور جراية أن حوالي 60 ألف تونسي مصابون بداء الفصام أو ما يعرف بالانفصام في الشخصية وذلك وفق إحصائيات تقديرية.
وأوضح جراية في مداخلة ألقاها خلال مؤتمر توعوي نظمته مدينة العلوم بتونس تحت عنوان “الفصام.. من أجل معرفة الأفضل” أن الفصام يعدّ من أخطر الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان، مشيرا إلى أنه داء يمكن أن يصيب الشخص في سن المراهقة أو بداية الشباب.
وأضاف أن هذا المرض المنتشر في مختلف الدول ويصيب قرابة 1 في المئة من سكان العالم يكون في بدايته غير معروف وغير ظاهر.
وأشار إلى أن أهم أعراضه تظهر في “العنف والقيام بسلوكات غير طبيعية على غرار تعنيف الأساتذة والأبوين والانقطاع عن الدراسة والتخلي عن الأصدقاء والابتعاد عن الأسرة، والنوم ليلا ونهارا والإكثار من التدخين وتعاطي المخدرات”.
ودعا جراية إلى ضرورة إعادة وظيفة مرشدي الأسرة والتوجيه وذلك بمختلف المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية، مبينا أنه تم التخلي عن هذه الوظيفة منذ سنوات في حين أنها كانت تلعب دورا مهما في توعية المراهقين ومعالجتهم بصفة آنية وسريعة في صورة تسجيل حالات إصابة بمرض نفسي.
الدعم النفسي
يشعر الأطباء النفسيون بقلق كبير تجاه الفئات الهشة في المجتمع، وخصوصا الأطفال وكبار السن الذين لا يحصلون على الدعم الذي يحتاجونه بسبب إغلاق المدارس والعزل الذاتي والخوف من الذهاب إلى المستشفيات.
وكشف الأطباء عن ارتفاع في حالات الطوارئ التي تحتاج إلى دعم نفسي بينما انخفضت نسبة جلسات العلاج النفسي الروتينية.
وأفاد الكاتب العام للفرع الجامعي للصحة بمنوبة كمال بن رحال أن عدد الوافدين على مستشفى الرازي قد تضاعف خلال السنوات الأخيرة ليبلغ سنة 2019 أكثر من 9400 مريض أقاموا بأقسام المستشفى مقابل معدل ما بين 4000 و5000 مريض في سنوات ما قبل ثورة يناير 2011.
وأشار إلى الارتفاع الكبير في عدد المرضى من الأطفال الذي تجاوز 1400 طفل أقاموا في المستشفى خلال سنة 2019 نظرا للضغوطات التي تعيشها العائلات وتأثيرها سلبا على الصحة النفسية للأطفال.
وأوضح أن الإقامة بمستشفى الرازي تنقسم إلى ثلاثة مستويات أولها الإيواء الوجوبي ويكون عن طريق عريضة تقدمها عائلة المريض إلى وكيل الجمهورية (النائب العام) أو رئيس المحكمة مرجع نظر الجهة والثاني بطلب من الغير، أما الثالث فهو الإيواء الحر أي أن المريض هو من يطلب الإيواء نظرا لضغط نفسي يعيشه.
1400 طفل أقاموا في مستشفى الرازي سنة 2019 بسبب الضغوطات العائلية
وذكر بن رحال أن 40 في المئة من المقيمين بمستشفى الرازي هم من الإيواء الوجوبي و40 في المئة من الإيواء بطلب من الغير و10 و15 في المئة من الإيواء الحر، أما النسبة المتبقية فهي تتعلق بالمرضى المقيمين بالجناح الخاص بمرتكبي الجرائم.
وحذر من الارتفاع المتواصل في عدد المرضى الذي زاد من الضغوطات على المستشفى الذي يشكو بطبيعته من العديد من النقائص، سواء على مستوى البنية الأساسية والتجهيزات أو على مستوى الرصيد البشري.
وأوضح بن رحال أن المستشفى الذي كان يستقبل فقط مرضى مدن الشمال أصبح قبلة للمرضى من مختلف جهات الجمهورية بسبب نقص هذه الاختصاصات على المستوى الجهوي، وهذا الأمر يمثل عبئا ثقيلا على المستشفى الذي لا تزيد طاقة استيعابه عن 620 سريرا.
وفي تونس، كما في أي مكان آخر، أدت جائحة كورونا إلى أزمة صحة نفسية عالمية بعد أن حاصر الموت والمرض الملايين من الناس وسبب لهم الفقر والذعر والقلق والاكتئاب وسرعة الانفعال والأرق والكوابيس.