الجانب الآخر من مشاريع التطوير العمراني في مصر

بقدر ما يشكل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر علامة على النهضة العمرانية التي يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسي، فإنها تحمل في خفاياها وجها اعتبره البعض مختلفا، حيث يرى محللون سياسيون أن المشروع الضخم الذي احتاج لبنائه إلى مليارات الدولارات وسيتم تدشينه رسميا بحلول نهاية العام 2021 قد يعزل مصريين فعليًا عن السلطة التي يبدو أنها سعت إلى تحصين النظام ضد الضغوط الاجتماعية والاحتجاجات السياسية التي قد تحدث مستقبلا.
القاهرة - سيبدأ موظفو الخدمة المدنية في مصر بداية شهر يوليو المقبل في الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، قبل الافتتاح الرسمي المخطط له في نهاية العام، حيث يعد المشروع الضخم جزءاً من جهود التخطيط الحضري الهائلة.
ويشمل ذلك الاستثمار في البنية التحتية للنقل والطرق والجسور وتنمية الأحياء الفقيرة وبناء مدن جديدة تجمع بين مقتضيات الأمن الاقتصادي والنظام، بدلاً من الصالح العام الأوسع أو التنمية الاقتصادية المستدامة. يحاول النظام تغيير المشهد الحضري القومي بشكل جذري مع التركيز بشكل خاص على القاهرة، بطريقة تقلل من تأثير الاضطرابات الحضرية الجماعية.
ويقول مراقبون إن خطة التطوير العمراني طموحة وتشمل محافظات (أقاليم) مصرية عديدة خارج نطاق القاهرة الكبرى، حيث يجري استغلال الظهير الصحراوي في شرق وغرب البلاد لتوسيع نطاق المدن، وإعادة تطويرها بصورة حضارية، واستيعاب الزيادة السكانية الكبيرة، وخلق الكثير من فرص العمل للشباب.
وتعد العاصمة الإدارية الجديدة، التي يتم إنشاؤها بميزانية تقدر بنحو 58 مليار دولار، أبرز مثال على إستراتيجية التطوير هذه، وهي تعتبر أغلى مشروع ينفذه الرئيس عبدالفتاح السيسي، حيث يتفوق على قناة السويس الجديدة التي تم إنشاؤها بقيمة 8 مليارات دولار.
ويقول المحلل السياسي المصري ماجد مندور في تقرير نشرته مؤسسة “غلوبال أجنس” إن هذا المشروع أصبح هو الرائد للنظام المصري، والذي يمثل 46 في المئة من إجمالي الدين الخارجي المصري الذي بلغ 125 مليار دولار اعتبارًا من الربع الأول من عام 2020.
الغاية من المشروع الضخم

ماجد مندور: تم خلق منطقة عازلة ديموغرافية عن المراكز القريبة من السلطة
تقع العاصمة الإدارية الجديدة في الصحراء على بعد 50 كيلومترا شرق القاهرة، وستحتوي كما هو مخطط لها على قصور رئاسية ومبان حكومية ومنطقة تجارية بسعة سكانية تقدر بنحو 6 ملايين ساكن. وفي جوهره يعد المشروع الضخم محاولة واضحة لنقل مركز القوة السياسية والاقتصادية بعيدًا عن القاهرة المزدحمة.
وعلى الرغم من ذلك لا يعد الانتقال إلى العاصمة الجديدة احتمالًا بالنسبة إلى الغالبية العظمى من المصريين، حيث يتم بيع شقة مكونة من غرفتي نوم مقابل 62 ألف دولار، لكن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يقدر بنحو 3 آلاف دولار.
وسيؤدي هذا إلى تخصيص العاصمة الجديدة للنخب المصرية فقط، أو أولئك الذين هم أقل احتمالاً لإثارة الضجيج ويشكلون حاليًا الجزء الأكبر من الدعم المدني للنظام.
ومن خلال إستراتيجية التنمية هذه يقوم النظام بإنشاء مساحة حضرية جديدة حيث تكون إمكانية الاضطرابات محدودة ويحيط بمركز السلطة السياسية سكان ودودون.
ويرى مندور كاتب عمود “تاريخ الثورة العربية” في مؤسسة “أوبن ديمكراسي” أنه بشكل فعلي يفصل النظام نفسه عن القاهرة وشوارعها الضيقة، حيث يكون ضبط الأمن أكثر صعوبة ويمكن لفقراء المدن زعزعة استقرار العمليات الحكومية، إما من خلال الإضرابات أو احتلال المساحات الحضرية أو المواجهة العنيفة مع قوات الأمن.
ويتزامن بناء العاصمة الإدارية الجديدة مع جهود مركزة لتغيير مشهد القاهرة، للسماح بنشر أسرع للقوات العسكرية وشبه العسكرية. يتضمن هذا الجهد استثمارات كبيرة في البنية التحتية للنقل. على سبيل المثال شرع النظام في بناء مشروع ضخم، ببناء أربعين جسراً، تتركز في شرق المدينة بميزانية إجمالية قدرها 895 مليون دولار.
لكن جودة التخطيط لهذه الجسور والفوائد المتوقعة لسكان المدينة القديمة لم تكونا جيدتين بالقدر الكافي، لاسيما وأنه يتم بناء جسر واحد، وهو جسر ترعة الزمر بمنطقة الجيزة المجاورة للقاهرة على بعد خمسين سنتيمترا فقط من بعض المناطق السكنية.
ومع ذلك في حالة الاضطرابات الاجتماعية يمكن استخدام هذه الجسور لزيادة حركة القوات عبر المدينة. ولم يسلم من بناء الطرق والجسور الجزء التاريخي من المدينة، حيث تم هدم جزء من مقبرة مملوكية وهي مقبرة ذات أهمية تاريخية ومعمارية قيّمة، كجزء من مشروع محور الفردوس، وهو مشروع تطوير طريق يمر بأحياء فقيرة مثل منشية ناصر والدويقة.
ستار تنمية الأحياء الفقيرة
حاول النظام إعادة هندسة المناطق العشوائية تحت ستار تنمية الأحياء الفقيرة ورفع مستوى المساكن غير الآمنة. وبجمع الأهداف الاقتصادية والأمنية تم توفير ميزانية قدرها 318 مليار جنيه (20 مليار دولار) لهذا الهدف، ويديرها صندوق تنمية الأحياء الفقيرة.
ويتضمن المخطط ترقية بعض الأحياء الفقيرة الموجودة ونقل سكان الأحياء الفقيرة الأخرى إلى مجمعات سكنية تقع في ضواحي المدينة. وعلى سبيل المثال تم تطوير مثلث ماسبيرو، وهو موقع حي فقير يحتل موقعًا متميزًا على ضفاف النيل، بميزانية تقدر بنحو 222 مليون دولار.
وسيشمل مشروع التطوير الهدم الكامل للأحياء الفقيرة واستبدالها بمركز استثماري وسكني. وقد عُرض على سكان العشوائيات خيار الانتقال إلى حي الأسمرات، في الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة، أو العودة إلى أحيائهم حيث يمكنهم استئجار أو شراء مساكن بتكلفة متزايدة، أو تعويضهم مالياً بقيمة 100 ألف جنيه (نحو 5.5 ألف دولار).
وحتى الآن وافق 70 في المئة من السكان على التعويض المالي، مما أدى إلى إخلاء المنطقة لنخب الطبقة الوسطى العليا للانتقال إليها. وهذا في الواقع يحول المنطقة من حي فقير إلى حي للطبقة الوسطى العليا، مع نقل السكان إلى أطراف المدينة.
ويقع الحي الفقير السابق خلف وزارة الخارجية، بالقرب من مقر الإذاعة والتلفزيون، وهما مركزان حيويان. يحد هذا الترحيل القسري من قدرة السكان السابقين على الضغط على النظام ويسهل احتواء أولئك الذين انتقلوا إلى المجمعات السكنية الجديدة.
وفي بعض الأحياء العشوائية، حيث سُمح للسكان بالعودة بعد إعادة الإعمار، توغلت قوات الأمن بشكل غير مسبوق. وعاد السكان أيضًا كمستأجرين بدلاً من كونهم أصحاباً لهذه المنازل، مما قد يعرضهم لخطر الإخلاء بناءً على إرادة النظام لأن الحصول على ملكية نهائية يحتاج إلى مرور 30 عاما.
وعلى سبيل المثال يعكس حي تل العقارب العشوائي، أحد أقدم الأحياء في المدينة، هذا الاتجاه. فهذا الحي شيده مهاجرون من الريف في عشرينات القرن الماضي، وتم هدمه في 2015 وعاد السكان مرة أخرى في عام 2019 كمستأجرين، وأفادوا بزيادة تواجد الشرطة في حيهم بعد استبدال الشوارع الضيقة بشوارع واسعة، وهي أكثر قدرة على توصيل الكهرباء لدوريات الشرطة. ورافقت ذلك أنباء عن تزايد مضايقات الشرطة.
وتحرم عملية تطوير العشوائيات جزءا من سكان الأحياء الفقيرة من مواقع سكناهم، إذ يتم نقلهم في الغالب إلى ضواحي القاهرة، ولكنها أيضًا توفر العقارات القيمة لتطوير المساكن الفاخرة ومراكز الأعمال، كما في مثلث ماسبيرو.
وهناك مثال آخر بارز وهو جزيرة الوراق، موقع التطوير العقاري الفاخر المقترح، والتي كانت موقع اشتباكات بين القوات الأمنية والسكان المحليين في يوليو 2017، حيث حاولت القوات الأمنية تنفيذ الأمر بهدم 700 منزل. وكان من المتوقع أن يتم تنفيذ خطة تطوير الجزيرة كجزء من مشروع مشترك بين الحكومة والهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري.
وتهدف عملية إعادة الهيكلة الحضرية للنظام إلى تسهيل احتواء أكثر سهولة وفاعلية للانتفاضات الحضرية. ويخشى نظام السيسي من تكرار أحداث الاضطرابات الجماهيرية في عام 2011، عندما تعرضت مراكز شرطة متعددة في أنحاء القاهرة -معظمها في الأحياء الفقيرة والمناطق ذات الدخل المنخفض- للهجوم والنهب.
وعلى الرغم من أن هذا السيناريو غير مرجح للغاية في ظل السيطرة المشددة للنظام الحالي، إلا أن الهجمات على مراكز الشرطة في عام 2011 كانت عاملاً هاماً في إرهاق قوات الأمن.
ويقول مندور إن نظام السيسي غيّر من خلال إعادة توطين السكان التركيب الديموغرافي للمناطق الحيوية القريبة من مراكز الحكومة، من خلال خلقه لمنطقة عازلةً ديموغرافية. وبالإضافة إلى ذلك شرع النظام في إطلاق عملية منهجية لتغيير البنية التحتية للنقل من أجل تسريع تحركات القوات عبر القاهرة، مما يسمح له بتطويق الاضطرابات أينما ظهرت.
وأخيرًا، وفيما يبدو أنه حل جذري لمخاوف النظام الأمنية، يتم بناء عاصمة جديدة للنخب، حيث لا يُرحب بفقراء الحضر. وسيسمح هذا لأي نظام مصري بالبقاء حتى لو فقد السيطرة على المراكز السكانية الكبيرة مثل القاهرة أو الإسكندرية، حيث يمكنه أن يشن حملة قمع جماعي على هذه المدن والتي من المؤكد أنها ستسفر عن خسائر.