الهندسة الجينية والذكاء الاصطناعي لإنقاذ الجنس البشري

الحياة على كوكب الأرض ستنتهي ولا جدال في ذلك، سواء أكان السبب كوارث بيئية أم أوبئة وحروبا. وحتى لا ينقرض الإنسان لا بد من البحث عن كوكب آخر يمكن العيش فيه. ولأن كوكبا مثل هذا غير متوفر إما بسبب ظروف المناخ أو بسبب البعد، يصبح من الأفضل استخدام الهندسة الجينية والذكاء الاصطناعي لإعادة هندسة الحياة البشرية لتلائم ظروف الكوكب أو ليتمكن البشر من قطع الرحلة بسرعة تقارب سرعة الضوء.
هل لدينا واجب أخلاقي لاستعمار الكواكب والأنظمة الشمسية الأخرى؟
حتما. فحياة الإنسان على الأرض لها تاريخ انتهاء صلاحية، كما يقول عالم الوراثة الأميركي كريستوفر ماسون، الذي يؤكد أن الحياة ستنتهي على الأرض، سواء بسبب الكوارث المناخية، أو الحروب الكارثية، أو موت الشمس. لتجنب الانقراض، سيتعين على البشر إيجاد كوكب يتخذون منه موطنا جديدا، وربما حتى نظام شمسي جديد، للعيش فيه.
رعاة الحياة
في كتابه الذي وصف بـ”الاستفزازي والرائع”، “الخمسمئة عام القادمة: إعادة هندسة الحياة للوصول إلى عوالم جديدة” الصادر مؤخرا عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يجادل ماسون، وهو عالم وراثة وعالم أحياء حسابية وكذلك أستاذ مشارك في طب وايل كورنيل نيويورك، أن لدى العلماء واجبا أخلاقيا للقيام بذلك، نظرا لأن البشر هم النوع الوحيد من بين الكائنات الحية التي تدرك أن الحياة على الأرض لها تاريخ انتهاء الصلاحية. لهذا فإننا نتحمل مسؤولية التصرف كرعاة لأشكال الحياة، ليس فقط لنوعنا، ولكن لجميع الأنواع التي نعتمد عليها الآن ولأولئك الذين مازالوا في المستقبل (عن طريق تطور يحدث بشكل طارئ أو مصمم).
وحسب ماسون، فإن نفس القدرة على الإبداع التي مكنتنا من بناء المركبات الفضائية والهبوط على كواكب أخرى يمكن تطبيقها لإعادة تصميم علم الأحياء حتى نتمكن من العيش بشكل مستدام في تلك الكواكب.
والخطة التي يقترحها ماسون في كتابه ليست خماسية كما جرت العادة، بل هي خطة تمتد على مدى 500 عام للقيام بمشروع طموح للغاية لإعادة هندسة الجينات البشرية بحيث يتمكن الإنسان من العيش في بيئات أخرى.
يطرح ماسون في كتابه خطة للبشرية داعيا العلماء والخبراء للعمل على تطويرها بشكل أفضل، مؤكدا على أهمية الوعي الخاص بالإنسان، ومدى إدراك البشر لدورهم في هذه الحياة، وعلى الجانب الفلسفي للبشر الذي يدفعهم للحفاظ على جميع أشكال الحياة.
ويدعو العالم الأميركي إلى ضرورة بذل الجهد للحفاظ على تفوق الجنس البشري وعلى صحة البشر، للقيام بالدور المنوط بهم، وهو الحفاظ على أشكال الحياة الأخرى على كوكب الأرض. ولا يتاح لهم ذلك إلا من خلال التوسع في استخدام التقنيات العلمية اللازمة وتطويرها، ولكن شرط أن يتم ذلك كله ضمن إطار أخلاقي.
ويقول ماسون إن أجسامنا البشرية الضعيفة، كما هي اليوم، لا يمكنها أن تقاوم ظروف السفر والبقاء على قيد الحياة خلال الانتقال بحثا عن عوالم أخرى صالحة للسكن. ولتأكيد وجهة نظره يشير ماسون إلى الأضرار التي لحقت برائد الفضاء سكوت كيلي بسبب السفر إلى الفضاء والبقاء بعيدا عن الأرض لفترة طويلة. وكان قد عاد بعد عام قضاه على محطة الفضاء الدولية، وتسبب ذلك في تغييرات حدثت في دمه وعظامه وجيناته.
ويقترح ماسون في كتابه برنامجا من عشر مراحل تتم خلالها هندسة الجينوم البشري ليصبح الإنسان قادرا على تحمل البيئة القاسية للفضاء الخارجي. والهدف النهائي هو تمكين البشر من الاستيطان في كواكب تابعة لأنظمة شمسية بعيدا عن نظامنا الشمسي.
المشروع الذي يقترحه ماسون يتحدث فيه عن أنظمة الطاقة الشمسية، وعن التكنولوجيا الحيوية والفلسفة وعلم الوراثة، مقدما رؤية غير مسبوقة، مستعينا بالآفاق التي أتاحتها الخوارزميات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
ولم يشر ماسون في كتابه إلى الإنسان الخارق (سوبرمان)، ولكن يمكننا الاستدلال على ذلك من المواصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في سعيه للوصول والتأقلم مع ظروف الحياة على كواكب بعيدة.
كتاب ماسون ليس مجرد خيال علمي أو نسخة تضاف إلى قصص سوبرمان، بل هو بحث مضن استند فيه على التطور الكبير الحاصل في الهندسة الجينية، التي شهدت اختراقات كبيرة بفضل الذكاء الاصطناعي والخوارزميات. فقد أصبح تحديد تسلسل المادة الوراثية بسرعات كبيرة أمرا اعتياديا بعد مرور 20 عاما على معرفة تسلسل الجينوم البشري لأول مرة، وكان حينها قد وصف بالإنجاز العلمي والتاريخي.
ومع بداية تحليل جدلية المادة الوراثية واكتشاف خارطة الجينوم البشري في ثمانينات القرن الماضي، واجه العلماء صعوبة في تحليل البيانات التي تم جمعها. وعلى الرغم من تحديد تسلسل خارطة الحمض النووي، إلا أن الأخطاء المرتكبة خلال تحليل كميات كبيرة من البيانات أدى إلى إنتاج صورة غير دقيقة أو ناقصة عن المادة الوراثية.
انطلق مشروع الجينوم البشري، الذي بدأته الحكومة الأميركية عام 1990 بميزانية قدرها 3 مليارات دولار، بهدف رسم خرائط للقواعد الكيميائية التي تنتج حمضنا النووي وتحديد جميع الجينات الموجودة في جينوم الجنس البشري.
استطاع العلماء معرفة ترتيب النيوكليوتيدات الموجودة في الـ”دي.إن.إيه” ويبلغ عددها نحو 3 مليارات، وهي في الإنسان موزعة على 23 زوجا من الكروموسومات.
خطوة أكثر تطورا

استغرق هذا العمل المهول نحو 20 عاما. استمر من عام 1984 إلى عام 2003، واشترك فيه نحو 2000 من الباحثين من 24 معهدا متخصصا في الولايات المتحدة ودول أخرى.
والنيوكليوتيد وحدة أساسية في بناء الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين، ويمكن النظر إليه على أنه بمثابة الحروف الأساسية التي تكتب بها الجينات، التي تنقل أوصاف الطفل من الأم والأب، ولهذا نسمي الجينات بالعربية مورثة.
وفي عام 2000 قدم المشرف على المشروع، الدكتور فرانسيس كولينز، المسودة الأولى لدليل الجينوم البشري إلى الرئيس الأميركي حينها بيل كلينتون، داخل البيت الأبيض. ويعدّ المشروع واحدا من الإنجازات العظيمة التي توصل إليها الإنسان واستحقت أن يحتفل بها.
بفضل هذا العمل الضخم، نعلم الآن أن الجينوم البشري يحتوي على ما يقرب من 3000 مليون زوج أساسي و20 ألفا إلى 25 ألف جين (مورثة). رغم ذلك، لا يزال يتعين وصف الكثير منها، لأن وظائف كل قسم من المعلومات الجينية التي تم تشفيرها في كل خلية من خلايانا غير معروفة بعد.
تصنيف النيوكليوتيدات ومعرفة استخدامها يمثلان خطوة أكثر تطورا، وهو ما عملت على تطويره شركة غوغل مؤخرا مستخدمة أداة ذكية تؤدي هذه الوظيفة، أطلقت عليها اسم “ديب فاريانت” تستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتكوين صورة للمادة الوراثية للشخص عبر تحليل البيانات.
ويستطيع نظام الذكاء الاصطناعي الجديد، الذي طورته غوغل، تكوين صورة دقيقة وكاملة للمادة الوراثية بسهولة من خلال اكتشاف طفرات الحذف والإضافة والطفرات الناتجة عن تغيير زوج من القواعد، وباستخدام وسيلة سريعة للتحليل الوراثي تسمى الأنظمة الفائقة لتحديد تسلسل المادة الوراثية.
وتتصف أداة غوغل بقدرات لم تكن متاحة سابقا. وتكتشف أدوات التسلسل الحالية الطفرات من خلال استبعاد أخطاء القراءة، لكن نظام ديب فاريانت ينتج صورة أكثر دقة.
وكي يتجنب فريق “غوغل برين”، الذي طور نظام ديب فاريانت، الأخطاء الناتجة عن الأنظمة الفائقة الأخرى في تحديد تسلسل المادة الوراثية، عمد إلى استخدام الملايين من أمثلة التسلسل الناتجة عن هذه الأنظمة بالإضافة إلى أمثلة كاملة لتسلسل المادة الوراثية. واستمر الفريق في تعديل نموذجه حتى توصل إلى مرحلة تمكن فيها من تحليل البيانات بدقة عالية.
تعديل الجينات

قال بريندان فري، وهو المدير التنفيذي لشركة “ديب جينوميكس” لبرمجيات الصحة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي “يعد نجاح نظام ديب فاريانت أمرا مهما لأنه يؤكد إمكانية استخدام التعلم العميق في دراسة المادة الوراثية وتدريب أنظمة تعمل بصورة أفضل من الأنظمة اليدوية”.
ويقول ماسون إن الناس يخشون تعديل الجينات أو إضافتها. لكن هذا قد يكون ضروريا في المستقبل، فنحن كعلماء نبحث أيضا في إمكانية التنشيط العابر للجينات، أي تشغيلها وإيقافها مرة أخرى.
ما تحدث عنه ماسون في كتابه حول تعديل الجينات يتم استخدامه فعليا؛ في 7 أكتوبر 2020، منحت لجنة تحكيم نوبل للكيمياء الجائزة لثنائي نسائي هما الفرنسية إيمانويل شاربانتييه والأميركية جنيفر داودنا، لجهودهما في تطوير “مقصات جزيئية” قادرة على تعديل الجينات البشرية، في إنجاز اعتبر ثوريا في مجال الكيمياء وعلم الوراثة.
وهذه لم تكن المرة الأولى التي سمع فيها العالم كلمة “كريسبر كاس” (المقصات الجزيئية). فقد سبق للأميركي جوسيا زينير أن أثار هو الآخر ضجة عام 2017، عندما بث مباشرة محاولة لتعديل جيناته بفضل تقنية كريسبر. وهذه الأداة الثورية التي طورت العام 2012 وتعرف باسم “المقصات الجزيئية” تبسط تقنيات تعديل الحمض النووي. وقد استخدمت بنجاح لمعالجة مرض جيني في الدم هو فقر الدم المنجلي.
إلا أن السلطات الطبية ووكالة الأدوية والأغذية الأميركية تحذر من استخدام هذه “المقصات” المتوافرة في السوق للاستخدام الفردي.
وفي 30 ديسمبر العام الماضي، قضت محكمة صينية بالسجن ثلاث سنوات على عالم الأحياء الصيني هي جيان كوي الأستاذ الجامعي السابق الذي عدل في جينات طفلتين توأم خلال مرحلة الأجنة بسبب ممارساته الطبية غير المشروعة.
وكان جيان كوي قد أعلن في نوفمبر 2018 أنه استخدم تكنولوجيا تعديل الجينات المعروفة باسم “كريسبر – كاس 9″ لتغيير جينات التوأم، وقال إن تجربته نجحت في تعديل الحمض النووي لأجنة، بحيث يتم إكسابهم مناعة ضد الإصابة بفايروس نقص المناعة المكتسبة المعروف بـ”الإيدز”.
وتُعتبَر هذه الأداة سهلة الاستعمال وقليلة التكلفة، وتتيح للعلماء قصّ الحمض النووي بدقّة في المكان الذي يريدونه، لأهداف منها مثلا التسبب بطفرة جينية أو تصحيحها ومعالجة أمراض نادرة.
قبل حدوث الكارثة

لعل من أبرز ما يدعو له ماسون من خلال كتابه هو القدرة على خوض تحدي المستقبل للفترة القادمة، وذلك بجعل الإنسان قادرا على الحياة في كواكب أخرى. ويؤكد أن ما ذكره في الكتاب “هو مجرد امتداد منطقي لنظامنا الحالي، إذ يبذل الناس كل ما في وسعهم من أجل فهم محيطهم بشكل أفضل ومن أجل ذلك ينبغي للبشر فهم قدرة الميكروبات والأحياء الدقيقة على التأقلم وتغيير نفسها”.
ويتابع “من المثير للاهتمام أننا نتعلم الكثير من الكائنات الحية الدقيقة، هذه الكائنات تتكيف مع الحياة في البيئات القاسية مثل الأعماق القصوى في المحيطات، وفي الأماكن شديدة الحرارة أو البرودة. وكلما تعمقنا في البحث أكثر وجدناها في أماكن تكون فيها الملوحة أو درجات الحرارة أو مستويات الإشعاع في مستوى نعتقد عادة أنه من المستحيل أن تتواجد فيه الحياة. ومازلنا نثبت خطأ اعتقادنا هذا”.
“أنا متأكد من أن أناسا سيولدون على سطح كواكب أخرى، فهذا أمر لا مفر منه، سيحدث ذلك … لقد فعلنا ذلك في بيئات سيئة أخرى لملايين السنين، لذا سيحدث هناك أيضا”.
ويوضح “سيكون الضوء مختلفا على كوكب المريخ، ولكن ماذا لو كانت لدينا عيون مختلفة وجينات تحمينا من الإشعاع؟”.
أبرز ما يدعو له ماسون هو القدرة على خوض تحدي المستقبل للفترة القادمة وذلك بجعل الإنسان قادرا على الحياة في كواكب أخرى
ويقول العالم الأميركي “يمكنك أن تتخيل أيضا أن تكون قادرا على الرؤية بأطوال موجية مختلفة، أو توليف جميع الفيتامينات أو الأحماض الأمينية الخاصة بك”.
“سنرسل الناس إلى المريخ، وسوف يتأقلمون هناك. هذا سيكون رائعا. لكن يتعلق الأمر أيضا بالحفاظ على الحياة كما نعرفها وعلى أشكالها المتنوعة. البشر هم النوع الوحيد الذي لديه وعي بالانقراض”.
ويستطرد ماسون “برأيي هذا هو الطريق الذي يجب على البشرية أن تسلكه للتعرف على كواكب أخرى والتأقلم على الحياة هناك. لكني لا أعتقد أن الإنسان قادر على إنجاز ذلك في المستقبل القريب، لذلك كانت الخطة التي وضعتها على مدى 500 عام”.
ولكن، بعد قول هذا كله، هل لدى البشرية 500 عام قبل حدوث الكارثة؟