بين أزقة طرابلس خرافات شعبية ليبية تثير الخوف والمتعة

ما يلاحظ في السنوات الأخيرة أن اهتمام العربي بالفانتازيا، سواء في السينما أو الدراما، أصبح كبيرا، وقد قدم فيها العرب أعمالا مميزة، رغم أن بعضها مازال لم يلق الصدى الكبير لدى الجمهور الغارق في الأعمال الواقعية التي يطالبها بأن تكون مرآة له. لكنّ الفانتازيا باتت مغرية ومثيرة للاهتمام والتجريب كما نرى في السلسلة الليبية "تخاريف".
يقول لنا الناقد الكندي نورثروب فراي في كتابه “تشريح النقد” إن جميع أجناس الأدب، وليس جنسا واحدا، مُستقاة من الخرافة، خاصة خرافة حياة البطل.
فلدينا سجل حافل من الأعمال الأدبية التي استخدمت الخرافة في الأدب كما يقول الناقد الأميركي روبرت سيجال، وسنجده أيضا في الفن والموسيقى، ولدينا شخصيات هامة في هذا الصدد مثل “أوديب وإلكترا” وشخصية نرسيسوس للإشارة إلى حب الذات، وهي ما تسمى الثيمات الخرافية الشعبية. ومسلسل “تخاريف” الليبي يعتبر إحدى أهم المحاولات الجادة في توظيف الخرافة في الدراما.
الممثلون والصراعات
تتكئ سلسلة “تخاريف” للمخرج مؤيد الزابطية على شخصيات خرافية في حلقات “سلال القلوب” و“غولة الجنانات” و“عزوز القايلة”، أما البقية فمزجت بين الواقعية كحلقة “المرؤوس” التي كانت أضعف الحلقات؛ نتيجة لعلو لغة المباشرتية والشعاراتية الواضحة. وهناك في المقابل حلقات أخرى قدمت خطا دراميا يتماشى مع روح السلسلة مثل حلقة “لعنة المسرح” و”نوستالجيا”، اللتان قدمتا خطابا فنتازيا متكاملا.
مزجت سلسلة “تخاريف” بين الواقع والخرافة والفنتازيا، ولم تكن عتبة السلسلة مباشرة مثل مسلسل “ما وراء الطبيعة” الذي عرض على منصة نتفليكس، التي كان الصراع الدرامي فيها واضحا من نقطة التحول الأولى وانقسم إلى صراعين داخلي وخارجي، هناك احتياج داخلي نابع من شخصية الدكتور رفعت إسماعيل، وهدف خارجي هو السعي إلى إثبات لغة العلم والقضاء على الخرافات التي يهرطق بها كل من حوله في بيئته.

المخرج وظف السرد التلفزيوني بالطريقة الصحيحة، بعيدا عن تدخل الخطابية والمباشرتية، وهذا ما نجح فيه بشكل لافت
في “تخاريف” الخط الدرامي مبني على فكرة الخرافة أصلا، وهي التي تقول لا بداية للبداية ولا نهاية تنتهي، وهذا خط الحلقتين الأوليين من “عزوز القايلة” كنموذج مثلا.
ونجد أن “تخاريف” ليست فقط الشخصيات الخرافية التي عاشت معنا في ذاكرتنا ووعينا الجمعي فقط، بل أضف إليها في واقعنا أيضا، الشخصيات التي تصنع أحداثنا سياسيين، عسكريين، لعنة الحرب، الحقد، القتل، الثأر والحب. وبذا تصبح الخرافات رسائل منها رسالة في آخر حلقة أننا نستطيع أن نغير المعادلات كلها، معادلة الحرب، معادلة الفوز والخسارة، الانتصار والهزيمة.
حكاية ‘تخاريف’ ليست مترابطة؛ أي أنها ليست مسلسلا، لذا يختلف الزمان والمكان والشخصيات والحكايات، وحتى القالب والخط الدرامي؛ فلا نستطيع أن ننظر إليه وفق معايير البناء الدرامي الكلاسيكي، ولكن سينفصل خطابنا الدرامي لكل حلقة أو حلقتين على حدة؛ فنجد في كل حلقة نقاط تحول درامية، احتياجا داخليا للبطل، وهدفا خارجيا.
عندما تكون هناك نصوص جيدة كنص “تخاريف” سيكون توظيف الشخصيات وحركتها ناجحا في خلق إيقاع درامي جيد، فقد تم توظيف الصمت، الحركة، اللغة العاطفية الأقل حدة، الحوار الجيد، الكتابة المشهدية (السيناريو)؛ أي سرد تلفزيوني، وليست مجرد كتابة صحافية أو روائية.
ونجد أيضا اختلافا كبيرا في الأداء التمثيلي فالممثل وهيب خالد يكسر القاعدة الساذجة في الفن التي تقول “الممثل هو ألا يمثل”، وهي أكبر كذبة في تاريخ الفن، فكان خالد يمثل، بل وكأنه يقول لنا في كل دور يجسده أنا أقوم بتمثيله على هذا النحو، خاصة أننا دائما ما لدينا عقدة في كتابة وأداء المشاهد الدرامية، والمقصود بمصطلح درامية هنا: هي المشاهد الجادة، وفيها كمية عواطف ومشاعر وانفعالات، كمشهد وهيب مع باسط بوقندة في المكتب في حلقة “نوستالجيا”، والمشاهد الرومانسية في حلقة “سلال القلوب”، أضف إلى ذلك قدرته على تجسيد شخصيات متنوعة ومركبة، والسيطرة حتى على من يقف أمامه من الممثلين الآخرين، وخير دليل على ذلك في مشهدين له، واحد أمام واصف الخويلدي في حلقة “الجريح الأعمى”، والثاني في حلقة “لعنة المسرح” أمام أسامة الباهي.
السيطرة هنا انفعالية في أدائها المتقن، وليست سيطرة ذات خط درامي؛ بمعنى أنه مكتوب على الورق أن يظهر مسيطرا نتيجة أبعاد درامية. كما كان كثيرون يعتقدون أن أدريان برودي سيطر على كيليان مورفي في مشهد لوكا مع توماس شيلبي.
وطبعا لا نستطيع إلا أن ننبهر بأداء هدى عبداللطيف التي كانت مسيطرة بشكل كامل على كل مشاهدها التي أدتها بين الانفعالات الداخلية إلى حركة جسدية وقدرتها على التعبير بحركات الوجه وحركتها أمام الكاميرا التلفزيونية، خرجت من عباءة حركة المسرح؛ أي لم تنقل حركة المسرح والأداء المسرحي ذاته أمام الكاميرا، بينما نقر بأن كتابة الحوار زادت من قدرة الممثلين على الأداء.
عمل ناجح

في “تخاريف” تعلو لغة الدراما بشكل كبير، الشخصيات لا تخبرنا بشيء خطابي، تظهر الأحداث وتخبرنا، نكتشفها لوحدنا، لا يتدخل أحد في لعبة السرد، وهذه من أهم الأشياء في خطاب السرد التلفزيوني. تمازج النص (السيناريو) مع السينماتوغرافيك، إضافة إلى الموسيقى التي خلقت إيقاع الأحداث، خاصة في ما يتعلق بالانتقال بين الزمان والمكان، وتفاعلها مع تصاعد حدة الصراع.
ونجد في البناء الدرامي شكل الصراع الداخلي، وعدم الاعتماد على صراع تقليدي، بمعنى الوثوب، التصاعد والهبوط، وتشكل الصراعات الداخلية نفسها في كوادر الكاميرا، ويعلن نفسه بصراع داخلي يوقف من توقع المشهد الإجباري، كحلقتي “الجريح الأعمى” و”رسالتي”.
ونلاحظ قدرة المخرج على إظهار الممثلين بشكل مختلف ومغاير عما نشاهده لهم في أعمال أخرى، فيستطيع ضبطهم عن طريق الإيقاع الموحد الذي يظهرون فيه، وهذا نجاح كبير له، وبكل تأكيد لو لم يكن هناك نص جيد لما كانت هناك هذه القوة في ضبط الإيقاع، فيبدو أن الزابطية يعرف مشروعه جيدا، فقد أحدث نقلة نوعية كبيرة في سلسلة ليبيات، ما يؤكد أن لديه مشروعه الفني الخاص به، ويبين قدرته على الاعتماد على النص في تقديم لغة سردية درامية من خلال السينماتغرافيك ولا يعتمد على جودة الصورة فقط.
وقد اعتمد المخرج بشكل كامل على كوادر ليبية من مواقع التصوير داخل المدينة القديمة طرابلس، مما زاد من القرب النفسي للجمهور، إضافة إلى المكياج والسينوغرافيا، والمونتاج والتصوير، نضيف إليها النجاح غير المسبوق لتصميم خلفيات الصوت، فلك عزيزي القارئ أن تستمع إلى خلفيات الصوت وصناعتها، التي وصلت إلى أن نسمع قلم الحبر وهو يكتب على مذكرة صغيرة.
تعزيز الجانب التأويلي المتعلق بالأحداث المخيفة، وحتى المشاهد الواقعية، كالخرافات التي تتولّى أحيانا دورا تعويضيا، يتمثّل في المقاومة الفسيولوجية، فهي تستوعب هذا الذعر وتتكيّف معه، وتستشفّ ملامحه، من أجل تحويل مساره وتوظيفه داخل أنساق تعبيرية متنوعة، في مساراتها وأنماطها، واحدة منها السرد التلفزيوني، وتوظيفه بالطريقة الصحيحة، بعيدا عن تدخل الخطابية والمباشرتية، وهذا ما نجح فيه تخاريف بشكل لافت.