حان الوقت لينفض أتباع الأديان السماوية عنهم وهْمَ أنهم شعب الله المختار

هل تبدو فكرة الإخاء بين الأديان حلماً خيالياً غير واقعي؟ وهل نحن ننفرد فيه ونخرج به دون بقية الديانات، أم أنّ هناك من يؤيّدنا في هذا التوجه؟ وهل لهذه الدعوة ظهير في الشريعة الإسلامية من نصوصها وفقهائها؟ وهل هناك في الأديان الأخرى من يعبأ بمثل هذه الدعوة، ويرى فيها مبادرة إيجابية للإخاء والتراحم في الأرض؟ وهل تشهد المجتمعات المتحضّرة ونخبها الفكرية إصلاحاً حقيقياً في الإخاء مع الآخر الديني؟
القاهرة - حاول الباحث الإسلامي السوري محمد حبش الإجابة عن جملة من الأسئلة المتعلقة بالإخاء بين الأديان بوصفها الوسيلة المثالية والطريق السالك إلى الإخاء بين الإنسان بغض النظر عن أصوله وتاريخه ولونه وعرقه.
وأطلق الدكتور حبش المتخصص في الشريعة ودراسات الأديان مشروعاً لافتاً في الفكر الإسلامي تحت عنوان إخاء الأديان وكرامة الإنسان، يلامس عميق الأخوة الإنسانية دون أن يخوض في دعوات توحيد الأديان وإنتاج ديانات جديدة.
ويرى حبش في كتابه “إخاء الإنسان” أن إخاء الأديان يثير مشاعر متناقضة لدى أتباع الديانات، فرغم القبول النفسي للعنوان واعتباره من أهداف الدين فإنّه يصطدم بنصوص قطعية في معظم الديانات التي تعتبر الخلاص شأن الديانة الناجية وحدها، وأنّ مسؤولية أبناء الديانة هي دعوة معتنقي الأديان الأخرى للتخلي عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق بهدف بلوغ النعيم السماوي الخالد، الجنّة أو الفردوس أو النيرفانا أو الظهور الجديد، وفق ما تكرّسه الأديان من ثقافة وتقاليد.
وأشار في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود إلى أنه من المدهش أنّ المجتمعات الإنسانية، ومنها معظم الدول الإسلامية، باتت تمارس قدراً كبيراً من الإخاء الديني، في إطار المعاملات والتواصل المجتمعي، وبشكل خاص في الدول الديمقراطية التي باتت قوانينها تفرض سلوكيات كثيرة من قبول الآخر واحترامه ومودته، وهدّمت حواجز كثيرة من التمييز والاتهام، ولكنّها ترتدّ في لحظة النصّ إلى الحوارات العقيمة التي تجعل من الآخر دوماً شيطاناً ضالاً مصيره الشقاء والخذلان، تضيق به رحمة الخالق، وينال أشدَّ العقاب على ضلاله وإصراره، وهذا مدلول النصوص الظاهرة في الأديان الإبراهيمية بشكل خاص، ومن المؤكد أنّ هذا التفكير موجود بشكل أقل في الديانات الفيدية “الهندوسية والبوذية”، ولكنّه غير موجود في الأديان الفلكلورية الصينية واليابانية.
الشقاق الاجتماعي
محمد حبش

باحث سوري في الشريعة والأديان، يتبنى عددا من قضايا التجديد الديني أهمها رفض احتكار الخلاص وتجديد فقه المرأة في الإسلام وإحياء مصادر الشريعة الغائبة. صدر له 52 كتابا، من بينها:
- سيرة رسول الله
- النبي الديمقراطي
- المسلمون وعلوم الحضارة
- إسلام بلا عنف
- المرأة بين الشريعة والحياة
لا شك في أنّ المسألة لا تتوقف عند الجانب اللاهوتي، بل هو أيسر المسائل، فهي تتعداه باستمرار إلى الشقاق الاجتماعي، وتبادل الريب والاتهام، وتحقير الذات الإنسانية، فمن كان عند الخالق حقيراً مرذولاً لن يكون عند عباده في حال أفضل، وسيتنامى شعور الكراهية بشكل مطّرد من الأيديولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن ثم فإنّنا لن نكون أبداً أمام مجتمع مستقر أو متراحم، بل سنجد أنفسنا أمام ركام من البغضاء قد تزيّنه بعض الممارسات، ولكنّه يرتدّ في لحظة الاصطفاف إلى جحيم الكراهية ونار البغضاء.
ولاحظ حبش أن الإنسان أمضى قروناً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر لأخيه الإنسان ويبادله اتهاماً بعد آخر، وانطبعت قصّة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع الأبدي في الأرض، ووجدت الصراعات والحروب المدمّرة تبريراً أخلاقياً، وتمّ تكريس عدد من المجرمين أبطالاً ملهمين في التاريخ، وبات المثاليون اليوتوبيون مساكين حالمين، يرثي لهم الواقع الصاخب الذي ترسمه سياسات التسابق على الثروة والقوّة والنفوذ. ومن المؤلم أنّ هذا الصراع انعكس أيضاً على جدل أتباع الأديان الذي بدا تسخيفاً وتشكيكاً، ثم صار تحقيراً ولعناً وتكفيراً، ثم تحوّل إلى حروب ضارية. ووجدت هذه الحروب، باستمرار، تبريراً أخلاقياً على الرغم ممّا فيها من ممارسات التوحّش البهيمية، ووجدت للأسف من بات يطلق عليها الحروب المقدّسة، ويكرّس أبطالها ومجرميها رموز التضحية والفداء.
وأكد الباحث السوري أن كتابه يسعى إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص الدينيّة، والتوفيق بين الديني والاجتماعي والفلسفي، ويعمد إلى استقراء النصوص الدينية الأساسية التي تتبنّى فكرة ضلال الآخر وخسرانه، ويحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام الآخر اعتقاداً وديانة ومذهباً، ويجتهد في التماس أجمل ما في الأديان، ويتبنّى تشجيع الديانات على الإخاء والتراحم فيما بينها ونزع أسباب التمييز والكراهية.
ولفت إلى أن كتابه يتجه أيضا إلى أفق آخر، حيث يبحر في الجوانب المشرقة من الاعتقاد الديني لدى كلّ ديانة وطائفة، ويهدف إلى بسط الأعذار لدى المخالفين لفهم روح الطقس الذي تمارسه هذه الديانات، وبيان أنّها تتجه إلى أهداف نبيلة. وهكذا فإنّه يحاول أن يقدّم للمكتبة العربية رؤية مختلفة لجدل الديانات، حيث يتخيّر من النبوّات والفلسفة والحكمة رائع المحاولات التي انطلقت من إيمان الإنسان بالإنسان، ويرصد أرق ما امتلكه الإنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة، لبناء عالم جديد يتأسس على المحبّة والعرفان.
ويقول حبش إن الفكرة تتأسس على أنّ هناك مكاناً يظهر أجود ما في الإنسان، ويكشف عن الجانب النبيل من إنسانيته، وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله الأديان، تأسيساً على الحكمة والإرادة والنبل في مقاصد الخالق العظيم، وإيماناً بالإنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه الجمعي، ممّا يؤكد وجود الجانب النبيل في تلك القيم المستقرة جيلاً بعد جيل وأمّة بعد أمّة.
واعتبر أن كتابه لا يهدف إلى تكريس قطيعة معرفية ومجتمعية مع اللادينيّين، فهدفه هو الإخاء الإنساني، والغاية الإنسان وليست الأديان، وإنّما كرّس الحديث عن إخاء الأديان لمعنيَيْن اثنيْن، الأول: أنّ الأديان لا تزال تشكّل الوعي الجمعي لغالبية سكان الأرض، وهي مسؤولة أخلاقياً عن نشر المحبّة ومواجهة الكراهية.
والثاني: أنّ ثقافة الكراهية والتدابر تنشأ في الغالب من مجتمعات الأديان، وتُبنى على أساس ديني، وبات من الواجب مواجهة هذه الخطايا باعتماد هدي النبوات، وإظهار الجانب الإيجابي والإنساني من ثقافة الأديان. ومن المؤكد أنّ للإنسان -بغض النظر عن أي انتماء ديني- مساحة في أعماقه للتأمل والروح. وقد نجح الفلاسفة في إيقاظ هذه المشاعر النبيلة عبر حديثهم عن الإشراق والفيض والتأمل، كما نجحت الموسيقى والشعر في إحياء هذه الروح النقية في الإنسان، وباتت هذه المشاعر رصيداً مشتركاً من الصفاء والطهر بين سائر الأبرار في هذا الكوكب، وأصبحت هذه القيم ظهيراً للقيم الدينيّة في دعم الإخاء الإنساني، وهي شريك طبيعي لكلّ جهود إخاء الديانات.
مواجهة احتكار الخلاص

أولى حبش اهتماماً مباشراً بالتأسيس لفكرة إخاء الأديان في الوعي الإسلامي، ومواجهة السائد في تفكير الرواة من وجوب البغض في الله، وافتراض الصراع بين الأديان صراعاً وجوديا لا يحتمل أي صيغة وفاقية، وأنّ إرادة الله قاضية أن تتصارع الأديان والأيديولوجيات إلى النهاية وأنّ البقاء للأقوى ومصير الآخرين الاندثار.
وقال إنّ “ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين، بل دخلت أيضاً إلى المختلف في المذهب، واتخذت شكلاً أشد ضراوة وعنفاً.. إنّ أكثر من عشر حروب حقيقية في الشرق الأوسط قامت في العقود القريبة على أساس طائفي، أو كان البعد المذهبي جزءاً رئيساً في إيقاظ نوازع الحرب وتبرير الكراهية. وتمضي عقيدة احتكار الخلاص إلى الغاية في نصّ مشهور: افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة. ورغم الجهود التأويلية الكثيرة التي قدّمها الفقهاء، وكذلك الجهود النقدية التي قدّمها الرواة، ظلت هذه الروايات أهم دوافع الإقصاء والكراهية”.
وأضاف “نشأت تيارات كثيرة تتبنّى البغض في الله بين التيارات المنقسمة، سُنّة وشيعة وصوفية وسلفيّة وظاهرية ومؤوّلة وإسلاميّين وعلمانيّين”.
وتوقف حبش أيضا باهتمام أمام الجهود الكبيرة التي بذلها الإصلاحيّون المسيحيون لمواجهة احتكار الخلاص، ويستعرض بشكل خاص فلاسفة عصر الأنوار، وكذلك فلاسفة الدين الطبيعي والإصلاح الديني، ويرصد التطورات الإيجابية التي تحققت على مستوى المؤسسات المسيحية الرسمية، والتي توّجت خاصة بتوقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين البابا وشيخ الأزهر.
وتساءل “هل الأديان مشكلة أم حلّ؟”، وتابع أن “إخاء الأديان الذي نسعى إليه غير ممكن في القراءات اللاهوتية السائدة على الأقل على مستوى الديانات السماوية، وبشكل أقل الديانات الدارمية والفلكلورية، حيث يلتزم لاهوت هذه الديانات بشكل صارم برفض الاعتراف بالأديان الأخرى، وفي هذه النقطة فإنّ استحضار مواقف متطرّفة لرجال الدين أمر سهل، أولئك الذين يبررون باسم الرب نسف كل جهودنا واعتبارها هرطقة وانحرافاً، ومن عجيب ما واجهت أنّ عدداً من المتشدّدين الإسلاميين باتوا يذكرون بإعجاب مواقف المتشددين في الديانات الأخرى، على الرغم من قسوتها وشدّتها على كلّ مسلم، وذلك باعتبارهم صادقين وصريحين ومنسجمين مع عقائدهم، بخلاف دعاة التقريب والإخاء الذين يتم وصفهم دوماً بالمنافقين المتلوّنين!”.
وواصل موضحا “في هذا السياق فإنّ الأديان هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل، وهذا ما يرثي لنا فيه دوماً التيار العلماني المتشدد الذي يرى أنّ الحل في قطيعة كاملة مع الدين، والاعتراف الصريح بأنّه لم يعد صالحاً للمجتمعات الحديثة وأنّ مكانه دراسات التراث البائد. ويتعين هنا عدم التعميم، فهذا موقف فريق متشدد من العلمانيين، ولكن التيار الغالب في العلمانية هو تيار يفصل بين الدين والدولة، ولا يرفض وجود الدين وما ينهض به من أدوار نفسية واجتماعية انطلاقاً من ذات الفرد”.
المساواة بين الأديان
ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين، بل دخلت أيضاً إلى المختلف في المذهب، واتخذت شكلاً أشد ضراوة
ولفت حبش إلى أنّ رجال الدين في كل الأديان في الغالب لا ينظرون بودّية لهذه الجهود، ويرتابون فيها لأنّها قائمة على تفكيك التفسير الحرفي للدين، والنهوض بتفسير مقاصدي سيكون من نتيجته بطبيعة الحال دور أقل لرجال الدين ودور أكبر للعقل وشروط المجتمع، وهو ما يرونه عملية مبرمجة ضد المؤسسات والطقوس والممارسات الشعائرية التي يقودها رجال الدين. وبذلك فإنّه يمكن القول إنّ رجال الدين عموماً لن يرحّبوا بمثل هذا الخطاب، وسيمارسون في الغالب دوراً رافضاً للإخاء الديني وربما سيقبلون إلى حد ما نوعاً من الإخاء البروتوكولي المتمثل في اللقاءات الاستعراضية التي يعقبها عادة تقديم المعاذير والتبرير للجمهور، وتأويل ما جرى بأنه لمصلحة الدعوة وتآلف الناس لإدخالهم في الدين الحق.
وشدد حبش على أنّ الاعتقاد بمساواة الأديان وإمكان تعايشها وتبادل الاحترام فيها وتكاملها وتضامنها أمر حيوي وممكن ولا يشكل تحدياً لأي دين، وحتى إن تناقضت الفكرة مع بعض النصوص المقدسة، فإنها تتطابق تماماً مع نصوص أخرى كثيرة.
وقال “إنني لا أقدم العالم للمسلم على أنّه جمعية خيرية، ولكنه ليس بالضرورة وكر ذئاب، وأن العالم يفكر كما نفكر ففي كل أمة متعصبون ومتسامحون، واتجاه لاهوتي صارم واتجاه إنساني متسامح، وأن التاريخ الإسلامي طافح بالأسماء الكبيرة التي تبنت الدعوة إلى إخاء الأديان، وناضلت في سبيل هذه الغاية النبيلة”.
وخلص الباحث السوري إلى التأكيد على “أن كل الديانات خاضت حواراً كهذا، وأن الكهنة كانوا يقفون باستمرار ضد التوجه التكاملي مع الآخرين، ويفضلون التأكيد على احتكار الحقيقة واحتكار الخلاص، ولكن رجال الفكر والحكمة لم يتوقفوا في كل الأديان عن المواجهة مع التيارات المتشددة، وقد باتت جهودهم مثمرة وناجحة، وأصبح التيار المؤمن بالإخاء الإنساني في سائر الأديان أكبر من التيار المطالب بالانعزال والعكوف على ثقافة القدماء واختياراتهم”، مشيرا إلى أن الإسلام مؤهل لأن يكون رائداً في ثقافة إخاء الأديان وكرامة الإنسان، فنصوصه طافحة بهذه الحقائق، ومنهجه التربوي طافح برفض الآبائية والورائية، وهو يؤكد باستمرار على البحث في المستقبل. وحين استعراض الماضي بكل تلويناته، من تاريخ وتراث وثقافة، وما ارتبط به من نزاع وحروب وكذلك من نصوص وردت في ظروف مختلفة تمنع الإخاء الإنساني وتحول دون اللقاء والإخاء بين أهل الأديان، فإن المنهاج القرآني أصيل وواضح وقد تكرر في صفحة واحدة مرتين “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ” (البَقَرَة 134).
واعتبر حبش أن الوقت حان لينفض المسلم وكذلك المسيحي واليهودي وهْم أنهم شعب الله المختار، وحان الوقت ليدخل الجميع إلى عقد جديد يؤمن فيه الجميع بالدين قوة روحية طامية، ونوراً يشرق به الله في قلب ابن آدم، والنور لا يطفئ النور، والعافية لا تشاقق العافية، والأمل لا يصادم الأمل، إنها قيم تتراكم في انبثاقها من الذات الإلهية التي يقدمها القرآن الكريم كما يقدمها الإنجيل الكريم، كما تقدمها كتب الحكمة في سائر العصور.