عباس بيضون يقرأ ما تقوله المرآة ويواجه الوباء بالقصائد

بيروت – “الحياة تحت الصفر” هي مجموعة القصائد التي كتبها أخيرا الشاعر اللبناني المخضرم عباس بيضون. وكُتبَت هذه المجموعة خلال فترة الحجر الممتدّة بسبب وباء كورونا الذي أصاب الكوكب برمّته عام 2020 ولا يزال مستمرّا بتبعاته المؤذية حتى اليوم.
أسئلة كثيرة يثيرها بيضون عبر قصائده من بينها ما معنى العزلة؟ شحوب الأيام وتكرّر التفاصيل؟ ذلك الفراغ الذي ابتلع البشر فجأة، تلك المرايا التي أجبره الحجر على الاصطدام بها كل يوم وبالتالي معاينة روحه وماضيه وعلاقته بالخارج والآخَر في كل لحظة؟
ويشحن الخوف، ذلك الذي نختبئ منه عبر استحضار الماضي، أغلب النصوص، فيما الأشباح، “تلك التي تزورنا يوميا من الماضي لترطيب هذا الحاضر القاحل”، هي ما يعلو صداه، وكأن الشاعر يقتنص صورة كابوسية ورعبا من المجهول ويحولهما إلى شعر يشحذ المشاعر ويفتح الأفكار على ما نحن فيه وسبل تجاوزه.
يرحل بنا بيضون في مجموعته، الصادرة أخيرا عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل، من خلال هواجسه وبين مفارقات عوالمه الداخلية، عوالم شاعر أثرى طوال السنوات الماضية قصيدة النثر رافدا المكتبة العربية بعيون القصائد.
وتبدو قصائد الديوان، على غرار مجموعته السابقة “ميتافيزيق الثعلب”، غير بعيدة عن يوميات الشاعر العابرة، لكنها أكثر قُربا من هواجس الذات، وأكثر استغراقا في تدوين مراثيها وهواجسها واعترافاتها، حيث تحتشد طقوس التذكّر والاستعادة، وحيث الاستهام بما تحمله من يقظة، وبما تتقدُ فيه من حياة متأخرة لكنها محتدمة، عبر ما تحاول أنْ تُثيره، أو عبر ما تتناهى عنده، إذ يجد الشاعر فيها شغفه وحريته، ويصغي إلى أصوات الغائبين في سيرته وأسفاره، تلك التي تدفعه إلى كتابة نصوص لذته الغائبة، والكشف عن شفراتها، وربما التحديق عميقا في متاهتها.
وينطبق على نصوص المجموعة ما كتبه الناقد العراقي علي الفواز في قصائد سابقة لبيضون يرى فيه أن الشاعر لا يواري هاجس المراثي الذي يبدو حاضرا بقوة، لكن الشاعر يصطنع له زاوية نظر تعكس خبرته الشعرية، وقدرته على ترسيم وحداته التصويرية من جانب، وعلى توظيف المستوى الدرامي بحذق، لكنه كان الأقرب إلى الصوت الخفيض، إذ يستعير هذا الصوتُ صوته وهاجسه وقلقه، وربما هو صوت شيطانه ذلك الذي ظل يمارس معه غواية التمرد، وغواية الكتابة عن طقوسها، إلى حدّ أنه استعاده ليشاطره لعبة كتابة المراثي والاستعادات.
ويذكر أن عباس بيضون ولد في صور، جنوب لبنان (1945) لأمّ عراقية، درس في الجامعة اللبنانية وأمضى حياته بين بيروت وباريس وبرلين. كان مسؤول الصفحات الثقافية في صحيفة السفير اللبنانية لسنوات. صدرت له 7 روايات منها خريف البراءة (2016) التي حازت جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب (2017)، كما له 9 دواوين شعرية منها “الموت يأخذ مقاساتنا” (2008) الذي حاز جائزة المتوسط عن فئة الشعر. له بصمات أساسية في قصيدة النثر العربية وقد ترجمت قصائده إلى اللغات الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية والألمانية.
بدأ الشاعر اللبناني عباس بيضون الكتابة في أوائل السبعينات ونشر أولى أعماله “الوقت بجرعات كبيرة” عام 1982 وكان عمره وقتئذ ثمانية وثلاثين عاما أي أنه عاش الثورة الشعرية اللبنانية إذا جاز التعبير في أواخر الستينات وخلال السبعينات. وهذا يحفز على الاعتقاد بأنّ هذه الثورة مثّلت أحد أسباب تأخره في دفع أولى أعماله للنشر خاصة وأن ديوانه “صور” يسبق في الكتابة هذا الديوان.
ومنذ ذلك الحين لم يتخل الشاعر عن قصيدة النثر التي اتخذها مشروعا جماليا وفكريا له، وصولا إلى كتابه الأخير الذي تبدو فيه قصيدة النثر عند بيضون مكتملة المعالم والخصوصية، نجدها صاخبة في العزلة ونستعير قوله ونصفها بأنها “مسكونة بأشباح من كانوا وما كان، شاحبةٌ، قاسية، عنيفة، ممتدّة، لا قرار للصوَر الاستعادية التي تستفزّها: الشارع. المقهى. الأصحاب. صوت الحياة” وغيرها.

“تحت الصفر إذن” نزول بحبال الشعر إلى قيعان مجهولة يستخرج منها الشاعر رؤاه حول الواقع المتقلب وحول الإنسان العربي واللبناني والكوني الذي لا يكاد يخرج من مأزق ليقع في آخر، وآخرها أزمة الفايروس الذي حصد أرواح الآلاف وفرض على البقية الانكماش والعزلة.
وفي المجموعة تحافظ صور بيضون الشعرية على حيويتها المعهودة في نصوصه السابقة، وهو أمر يؤكد الشاعر مرارا بأنه لا يعرف من أين يأتي. لكنه لا يخفي في كل نص جديد افتتانه بنوع من الصور والتكوينات والتشكيلات التي يقيسها وفق ذاته وحالاتها بين القوة والضعف والإمساك بزمام الأمور وإفلاتها على عواهنها، فالصورة الشعرية عنده ليست كناية ولا رمزا، إنها نوع من الحضور.
يكتب بيضون في نبذة عن مجموعته “مسجونٌ الآن في مرايا هي الشاهد الوحيد على ما كان، والتحدّي الأصعب لما سيأتي: هل ستظلّ وجوهنا هي ذاتها فيها بعد انتهاء الجائحة؟”.
هكذا يسأل الشاعر المتروك لهواجسه في هذه المحنة، الغارق في تأمّلاته، والمتفرّج المسكون بالفراغ الذي منه بدأ كلّ شيء وإليه كلّ شيء ينتهي.