الانتخابات وثقافة التجربة

في أراضيهم المحتلة أو المحاصرة، ينشغل الفلسطينيون في هذه الأثناء، بانتخابات يُمكن أن تُجرى بما تيسّر من الشروط الشكلية لمثيلاتها في الدول المستقلة، لاسيما في أوقات العُسر. وعلى الرغم من قناعة كبار الخائضين من القوى الممسكة بمقاليد الأمور في السياسة والحكم؛ بأن شعبهم وقضيته قد تجاوزا حال الأزمة، ووصلا إلى حافة الهاوية؛ إلا أنهم ظلوا على جفائهم حيال فكرة المراجعة وفحص التجارب، ومطالعة ما آلت إليه أمور شعبهم. لذا تراهم في كل ما عرضوا ويعرضون، طوال سنوات التكاذب في موضوع المصالحة وحتى الآن؛ سلطويين بامتياز، وأبعد ما يكونون عن مساءلة أنفسهم ومصارحة الناس بما توصلوا إليه من الأجوبة. فمساءلة النفس، هي النقلة الأولية والضرورية في اتجاه الصواب والحكمة، والسلامة من المزالق، وحُسن أداء الواجب.
لا مجال لأحاديث السياسة في هذا المُقام، لولا أن ثقافة التجربة تكمن في الموضوع. فأجواء انتخابات الفلسطينيين باتت مشحونة بأحاديث تشبه يقظة الإرادة، لكن مثل هذه اليقظة، تتطلب التوافر على ثقافة التجربة التي تستدعي حكمة العقل، وتتغاضى ـفي الحال الفلسطينيةـ عن كل ركام من بقايا الحقائق والأكاذيب، وبقايا الأحلام والأوهام، التي ليس بينها وتد قوي، يمكن التعلق به أو الاستناد إليه، لتفادي السقوط مع المزيد من الخسارة!
وإن كانت يقظة الإرادة تستند إلى ثقافة التجربة، فإن هذه الأخيرة، لا تتأتى إلا من خلال مساءلة النفس، ليس للتفجع أو الاعتذار والإعراب عن الندم؛ وإنما لكي يتعدل المسار بغير الذين تسببوا في إشقاء الناس، وفي إفراغ بُنية النظام الوطني من حيثياته. وعندما تكون ثقافة التجربة هي شرط يقظة الإرادة، فإنها هي التي تقدم الأجوبة التقريرية وليس الإنشائية، عن الأسئلة العاجلة والمشروعة: ما الذي فعلناه بأنفسنا وبالمستقبل؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟ وعن أي طريق؟ وما هو أسلوبنا المعتمد في تقدير حسابات الربح والخسارة والمضاهاة؟
ربما لا تكون السياسات الراشدة ضمانا أكيدا للنجاح ـ لأسباب موضوعية ـ لكن السياسات الضالة، الكاذبة والإقصائية وذات الوعود القصوى، هي ضمان محقق للفشل والخيبة.
الفلسطينيون في أراضيهم المحتلة، يتطلعون قبل كل شيء وبعده، للعودة إلى مجرى الحياة، وقد لوحظ أن هذه الأمنية أصبحت سمة الخطاب الانتخابي لكل المتنافسين، وفي طليعتهم الذين خاضوا التجربة وفشلوا وتسببوا في إخراج شعبهم من دائرة الحياة الطبيعية، فزادوه بؤسا وأشبعوه خطابا إنشائيا مفصولا عن الواقع وعن حركة التاريخ.
ولا يزال بعض هؤلاء يريد الحفاظ على عذريته الأيديولوجية أثناء ممارسة السياسة، والبعض الآخر يريد التستر على مخازي تجربته لكي يظل يمارس السياسة. وفي المقابل، يتوسل الشعب التحرر والرفعة، ويطالب بحقه في الاختيار بحرية. فإن أحسن الفلسطينيون الاختيار، تتوافر لهم الفرصة للابتعاد عن الحافة، ولو ببطء، حتى يمكن الوقوف على القدمين، بحثا عن مخرج.
إن حُسن الاختيار، هو الذي يقود إلى حُسن تقدير الحال الموضوعية، وما تتطلبه من مهام، على طريق الحق والحرية، دون التورط في وعود يستحيل تحقيقها. وهذا هو جوهر السياسة، من حيث كونها فن استخدام إرادة المجتمعات لإدارة مقومات طاقاتها الإنسانية.
لعل من مفارقات الانتخابات في فلسطين، أن قوائم القوى الصغرى الناشئة، التي تسلمتها هيئة الانتخابات الفلسطينية؛ كانت ـ بتواضع برامجها وشعاراتهاـ أصدق تعبيرا عن نفسها ونواياها، من قوائم الأطراف الوازنة، إذ ركزت على شؤون قطاعية، تتعلق بحقوق الموظفين والمرأة والعمال وذوي الإعاقة وغيرها، دون الخوض في وعود شاملة.