فيلم "الأب".. يوميات رجل وحيد بذاكرة متشظية

قضية هامة يطرحها فيلم "الأب" حيث يفضح الجدب الإنساني وحالة انعدام الإنسانية التي وصلت إليها مجتمعاتنا، من خلال طريقة تعاملها مع كبار السن، وخاصة إذا كانوا مرضى، حيث ينكرهم الجميع حتى أبناؤهم، وكأنهم يذكرونهم بالنهاية بأنهم أشخاص عجزة يثيرون الاشمئزاز والكراهية واللامبالاة في أنفس الآخرين، وكأن النهايات لا تكون إلا بكل هذه القسوة والألم.
في اللقاء العابر الذي يجمع شخصيات لا يربطها رابط يتحقق نوع من التبعثر واللاجدوى وفوضى المشاعر الإنسانية ولا يبقى الأمر مرتبطا إلا بانشغالات هامشية.
من وجهة نظر الأب في الفيلم الذي يحمل العنوان ذاته للمخرج فلوريان زيلر هنالك أنتوني (الممثل أنتوني هوبكنز) الثمانيني الذي تعصف به الذاكرة يمينا وشمالا وهو يعيش ذروة تلك اللقاءات العابرة مع شخصيات إيهامية لا يربطها رابط. كأنه كائن هبط من كوكب آخر وكأنه يتحدث بلغة أخرى ويعبش في فوضى لا يمكن للشخصيات أن تعيشها.
عصف الذاكرة
فيض من اليوميات والشكل الواقعي تتكامل في هذه الدراما، يوميات رجل مطعون ومتألّم من وحدته وذاكرته المشتتة واسترجاع ذكرى ابنته الشابة الراحلة وما بين ذلك نزاع من أجل البقاء.
وما الشاهد على كينونة ذلك الرجل والسبب الذي جعله يعيش في ذلك الهامش البشري سوى الزمن، ولهذا يضيع الشاهد على الزمن مرارا، ففي كل مرّة تضيع ساعة أنتوني ويكاد يتهم الخادمة بسرقتها حينا وصولا إلى اتهام نسيبه بتلك السرقة لكنه سيعثر على دالّة دورة الزمن وأي زمن يمكن أن يقرأه فيها سوى زمن عزلته ومحنته.
على خشبة الحياة المرّة يتوالى ظهور تلك الشخصيات، وبالفعل تشعر أنك إزاء عمل مسرحي يتكئ على محدودية المكان وعلى الحوار ولسوف تنتظر الملل من أعمال كهذه لا تنتمي إلى روح السينما، لكن ذلك لن يحصل قط ولا تشعر بالزمن كيف يمر وسط تلك الأزمة الإنسانية التي تفطر القلب لرجل يعصف به مرض الزهايمر وخلال ذلك المرض تتكشف الشخصيات المحيطة به على حقيقتها.
بالإمكان أن نختصر علاقة أنتوني بابنتيه بشكل ما لا يتعدى حدود الحاجة في وسط محنة العزلة والنسيان، في ذلك الجدب الإنساني وحيث الرجال الذين يظهرون لا يكفّون عن إظهار عدوانيتهم تجاه الرجل المسن إلى درجة أن أحدهم يقوم بصفعه مرارا.
بالطبع سوف نتكئ كثيرا على خيالات أنتوني والمشاهد تنسخ المشاهد والمواقف تنسخ المواقف وذلك استنادا إلى عصف الذاكرة وتشظّيها.
أنتوني هوبنكز، الذي يتربّع بامتياز على قمّة التمثيل يقدّم واحدا من أجمل أدواره يتوّج بها كهولته السينمائية، فهو يعيش حواراته مع شخصياته المتعددة في داخله التي بالكاد يسيطر على انفعالاتها وهو لا يريد شيئا سوى أن تكون ابنته الرسامة الصغيرة إلى جانبه أما الكبرى فكأنها هي البديل عن الأم.
يترشح هذا الفيلم بجدارة للأوسكار هذا العام ولست أحسب أن الجائزة سوف تخطئ أنتوني هوبنكز لبراعته في هذا الفيلم المميز الذي هو في حد ذاته تحدّ في الخروج على الشكل المسرحي، وفيه الأحداث كلها تقع في إطار شقة يتوالى فيها ظهور الشخصيات.
تحتل الحوارات بين أنتوني وابنته الكبرى آن (الممثلة أوليفيا كولمان) مساحة واسعة من الفيلم وليست العبرة في تلك الحوارات في حد ذاتها بل في ما سوف تكشفه من علاقة مركبة وإشكالية بين الأب وابنته، فهي التي لا تكاد تبتسم إلا وتخفي خلف تلك الابتسامة حزنا مريرا على الحالة التي تشاهد فيها والدها.
وينجح المخرج من خلال شخصية آن تحديدا في وضعنا في وسط فوضى الذاكرة حتى لا نعود نميز بسهولة بين ما هو متخيل ومجرد هذيانات وتدهور للذاكرة وبين ما هو واقعي وحقيقي ومن ذلك قرار آن السفر إلى باريس للعيش مع زوجها هناك، تعيش مع رجل، ولكنهم لا يتكلمون الإنكليزية، تلك هي اعتراضات أنتوني الوحيدة وأما ما عدا ذلك فهو شعور بالتشبث الطفولي بأذيال الأم، نعم سوف يمنحك ذلك الإحساس.
دراما مميزة
في هذه الدراما التي يمكن تلمس المساحة القاحلة للوجود الإنساني وانشغالات البشر وهم يشاهدون حطام الإنسان في أرذل العمر، سوف نعيش ذات الإرباك الذي تعيشه الشخصية لمحاولة الإلمام بدوافع الشخصيات وأيها الخيالي وأيها الواقعي وجميعها يحتل محورها أنتوني بذاكرته الهائمة المتشظية وهو يحاول أن يلمّ بوجوده البسيط، فهل أن المكان له أم أنه مجرّد ضيف عابر وسوف يغادر المكان، وهل أن ابنته الكبرى الحنونة آن في طريقها إلى باريس أو أنه مجرّد خيال وأنها لن تفرّط فيه ولسوف تفني عمرها في خدمته.
لكنه ها هو في عزلته المريرة وهو ينتقل إلى فصل آخر أشد وقعا على النفس وهو النفي إلى دار العجزة والمسنين، وها هو يبث شكواه للممرضة، ويسرد لها تاريخه القلق والذي لا يستطيع اليقين بأنه تاريخ حقيقي أم متخيّل وافتراضي.
وإذا كان الحوار دالا على التشظي الذي تعيشه الشخصية فإن أنتوني يلجأ إلى عالم الأوبرا وإلى الأصوات الفخمة يصغي إليها وحيدا، بل سوف تتحول إلى خلفية لهذه الدراما القاسية، ونلاحظ أنه مع المشاهد الأولى سوف تتحول تلك الأصوات الأوبرالية إلى ما يشبه اللأزمة المصاحبة لأنتوني فيما هو يحاول الإفلات وحيدا من الواقع.
يصدمنا المخرج مرارا بالشخصيات وأدوارها في هذه الدراما وتتغير أسماء الشخصيات ووظائفها مرارا فمثلا هنالك شخصيتان تحملان اسم آن وشخصيتان تحملان اسم لاورا، وهكذا سوف نمضي مع الثنائيات المدهشة في هذه الدراما الفيلمية المميزة.