هل حقا بقيت علمانية في السودان

على مدار أكثر من أربعة عقود لم تتوان الكثير من القوى السياسية في الحكم والمعارضة عن بذل جهود مضنية لعدم الفصل بين الدين والسياسة وجعلهما وجهين لعملة واحدة، ما أنتج حالة واسعة من الأسلمة في المجتمع السوداني.
وجعلت هذه الحالة عبدالعزيز الحلو قائد الحركة الشعبية – شمال يتمسك بوضع عناوين عريضة ترسي لمبدأ العلمانية في الدستور المنتظر قبل التوقيع على إعلان المبادئ مع الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة في جوبا الأحد الماضي.
إنزال إعلان المبادئ على الأرض يحتاج تحركات مضنية تعالج الكثير من التشوهات الحالية
من طربوا لتضمين الإعلان لقواعد مهمة للدولة المدنية صدمهم إعلان حزب الأمة القومي الثلاثاء بتأكيده أنه “يرفض الدولة العلمانية، كما يرفض الدولة الدينية، ومبدأ تقرير المصير، وفرض الأجندة الأيديولوجية شرطا لتحقيق السلام”.
ومع أن الصياغة السابقة بدت لا تخص فقط العلمانية، غير أنها تعبر في النهاية عن تحفظ أحد الأحزاب المشاركة في السلطة حاليا على ما تم الاتفاق عليه بين البرهان والحلو، وكأن الأمة أراد اختيار طريق ثالث من دون أن يحدد هويته السياسية بدقة.
انضم إلى الأمة، حزب “المؤتمر الوطني” (المنحل) وحركة “الإصلاح الآن” و”منبر السلام العادل”، والقوى الثلاث متوقع رفضها لإعلان المبادئ اتساقا مع تاريخها الذي يقوم على تبني طروحات إسلامية، بل إن حزب المؤتمر الوطني في عهد الرئيس السابق عمر البشير قاد أكبر عملية أسلمة سياسية وأمنية واقتصادية ومجتمعية في السودان الحديث، تجعل عملية إزالة نتائجها بحاجة إلى خطة طويلة.
لا تزال آثار المشروع الذي تبناه البشير ومعه الحركة الإسلامية ماثلة في الأذهان من خلال الكثير من القوانين التي تنطلق من مبادئ الشريعة، والتي تقترب منها الحكومة السودانية بحساب شديد خوفا من ردود فعل تتجاوز حدود الأحزاب والحركات ذات الانتماءات الإسلامية، فقد شطبت بعض القوانين التي تحجر على حرية المرأة، غير أن الأشواط التالية تمضي بحذر، وبعضها يتعثر في منتصف الطريق.
اضطر رئيس الحكومة عبدالله حمدوك منذ شهرين إلى إقالة رئيس لجنة تطوير المناهج عندما تجرأ وألغى مقررات تعليمية موروثة من عهد البشير لصالح أخرى تدعم الوجه الحضاري في البلاد، تحض على التسامح والانفتاح على الفنون، ووقتها رضخت الحكومة لضغوط عكست الفشل في هز الثوابت التي خلفها النظام البائد.

حزب الأمة تحفظ على ما تم الاتفاق عليه بين البرهان والحلو واختار طريقا ثالثا من دون أن يحدد هويته السياسية بدقة
يستطيع المراقب رصد مجموعة كبيرة من الشواهد التي تؤكد أن نظام البشير نجح في غرس بذور كثيرة في المجتمع تجعل من مسألة العلمانية تحديا كبيرا أمام السلطة الحاكمة، فلا يكفي التوقيع على اتفاق مبادئ يشير إلى فصل الدين عن الدولة والتأسيس لدولة ديمقراطية تعتمد المواطنة منهجا، ولا حتى نصا دستوريا بذلك، فالمهم كيف يتقبل المجتمع ما حرص الحلو على الوصول إليه.
تخلف الرجل عن ركب الحركات المسلحة المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية ورفض الدخول معها في مفاوضات مع الخرطوم والتوقيع على اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر الماضي، قبل الحصول على ضمانات يعتقد أنها كافية لطمأنة أقاليم الهامش والأطراف، متصورا أن النصوص وحدها يمكنها تأسيس دولة مدنية حديثة.
كانت السلطة الانتقالية بقيادة البرهان حصيفة في الحرص على ضم أكبر حركة مسلحة لركب السلام وبأي ثمن، ووافق على غالبية مطالب الحلو تقريبا التي اتفق عليها من قبل مع حمدوك في أديس أبابا، وهو يعلم أن هناك فئات في المكونين المدني والعسكري في السلطة وخارجها ترفض مسار العلمانية، لكن البرهان قبله باعتباره الوحيد الذي يضمن عدم رفع السلاح في الجنوب ويجذب أبرز قادته لأضواء السلطة في الخرطوم.
أمام الطرفين مشوار طويل لترسيخ إعلان المبادئ وجعله نصا يصعب المساس به مستقبلا، فقد تشهد المفاوضات المقبلة مطبات في منتصف الطريق، لأن الشيطان في السودان دائما يكمن في تفاصيل الاتفاقيات، فهناك عدد كبير من إعلانات المبادئ وقعت بين الحكومة وحركات مسلحة في الشرق والغرب والجنوب بوساطات إقليمية مختلفة ولم تر النور، لأن المراجعات التي تحدث لاحقا أشد خطورة.
ما جرى في جوبا بشأن ملف العلمانية هو تسكين لأزمة عميقة وترحيل لها أكثر من كونه حلا جذريا، فالخرطوم تريد سرعة احتواء الحركات المسلحة لتوفير الأمن والاستقرار، والإيحاء بأنها حققت أحد أهم البنود التي حوتها الوثيقة الدستورية.
بصرف النظر عن تجاوز المدة الزمنية للوصول إلى السلام الشامل كبند رئيسي فيها، وهي ستة أشهر من بداية المرحلة الانتقالية في سبتمبر 2019، فالمهم أن عزيمة السلطة لم تفتر وعلى استعداد للمزيد من التضحية لطي صفحة الصراعات في الأقاليم المختلفة، وهذه رسالة مركزية أراد البرهان توصيلها لمن يهمهم أمر السودان.
كما أن الحلو الذي حقق هدفه بات شخصية يمكن أن يلتف حولها الكثير من سكان الأقاليم التي شعرت بالغبن من وراء تطبيق قوانين الشريعة في أواخر عهد الرئيس الراحل جعفر نميري، ثم طوال حكم البشير بدرجات متفاوتة، ما يجعل الحلو رقما مهمّا في الوجدان الشعبي يتجاوز تأثيره حدود ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ارتدى الرجل ثوب الراحل جون قرنق مؤسس الحركة الشعبية التي يقود الحلو أحد رافديها في شمال السودان، حيث يقود الرافد الثاني غريمه مالك عقار، بينما ذهب الرافد المحوري إلى الاستقلال بجنوب السودان ويقوده الرئيس سيلفا كير ميارديت.
ينطوي التمسك بقضايا مفصلية خاصة بمكونات الدولة المدنية والوصول إليها عبر إعلان مبادئ حتى الآن، على إشارة بأن الحلو الوريث الحقيقي للراحل قرنق في الشمال، بما يدغدغ مشاعر من حلموا بمشروعه المتعلق بالسودان الجديد.
من طربوا لتضمين الإعلان لقواعد مهمة للدولة المدنية صدمهم إعلان حزب الأمة القومي الثلاثاء بتأكيده أنه “يرفض الدولة العلمانية، كما يرفض الدولة الدينية
يحتاج إنزال إعلان المبادئ على الأرض تحركات مضنية تعالج الكثير من التشوهات الحالية، فقد أمعن البشير في تعميم الأسلمة، حتى من انقلبوا على نظامه لن يتخلوا عن التمسك بالدين ودوره الكبير في الحياة السياسية، فهناك من الحركات الصوفية والتنظيمات المتشددة والأحزاب المشاركة في السلطة وخارجها من أصبحوا نافذين في قمة وقاع المجتمع، ويمثلون قوة حرجة في تنفيذ ما يريده الحلو ورفاقه من أمنيات للطبعة الجديدة من مشروع السودان الجديد.
تحتاج هذه المعضلة رؤية لاجتثاث كل ما تركه نظام البشير في عقول وقلوب قطاعات كبيرة من الناس، فرحيله عن الحكم لا يعني رحيل أفكاره، وهو ما يمنح الأحزاب والقوى السياسية المتأسلمة قوة كامنة يمكنها تحريكها في الاتجاه الذي تريده، وعرقلة طموحات كل من يسعون لدولة مدنية يظل الدين فيها بعيدا عن السياسة.