موقع الخليج في حسابات مصر مع تركيا

بات سؤال أين دول الخليج الصديقة في حسابات مصر مع تركيا ضروريا بعد ظهور إشارات إيجابية متتابعة من أنقرة، واحتمال أن تكون المصالحة المتوقعة بين البلدين قاصرة عليهما، باعتبار أن نظام الرئيس رجب طيب أردوغان يريد إعادة الزخم لعلاقاته مع دول المنطقة، ويوحي بأنه قادر على ترتيب أوضاعه الخارجية.
كان يمكن فهم أن تصبح تطورات المصالحة مختزلة في القاهرة وأنقرة قبل حدوث تحولات وتغيرات في المنطقة، فالسلوك التركي غير المنضبط لم يكن موجها لمصر فقط، بل شمل حلفاءها الأساسيين، السعودية والإمارات والبحرين، وبدت أسباب التباعد عن أنقرة متقاربة بعد دعمها جماعات متطرفة وتدخلها في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، وتصاعد طموحها في منطقة الخليج.
لا يزال التعامل التركي مع السعودية في ملف المصالحة فاترا، وتكاد تكون مبررات تمهّل الرياض في اتخاذ خطوة نوعية إزاء أنقرة مشابهة للمنطق المصري، فما قدمته تركيا غير مقنع للقيادة السعودية، ودوافع القبول بتطبيع العلاقات السياسية التي لاحت معالمها منذ بضعة أشهر تراجعت في التقديرات الحالية.
لم تكن دواعي خصام الرباعي مع تركيا في البداية واحدة، فهناك تفاوت في الأسباب والدوافع السعودية والإماراتية مثلا عن مصر، لكن الحصيلة الراهنة متماثلة من حيث الشروط الواجب توافرها للانفتاح والتحسن التدريجي وآليات تطوير العلاقات، ورفض أي مصالحة ربما تجلب تداعيات سلبية على دولة أخرى حليفة.
تحرص مصر على التمسك بالروابط المتينة مع الدول الخليجية الثلاث، والعكس صحيح، وستكون تركيا مخطئة لو تصورت أن المفردات العاطفية التي تستخدمها ستمكنها من إبعاد القاهرة عن الخليج، حيث أكد مسؤولون كبار في مصر أن أمن الخليج يرتبط بالأمن القومي المصري، ويقع ضمن خطة استراتيجية قديمة لا تتأثر بالتطورات الطارئة، وأثبتت الجغرافيا السياسية صواب هذه الخطة تاريخيا.
أرخت التوجهات التركية بظلال قاتمة على الدول الأربع، وإن جاء التأثير بدرجات متفاوتة، لكنه في المضمون النهائي يمس العصب المركزي لديها، فأزمة مصر مع تركيا أكبر من احتضانها جماعة الإخوان وتقديم الدعم السياسي والإعلامي لها.
وتصل إلى الاعتراض على الكثير من الإجراءات التي قامت بها في المنطقة، بدءا من تدخلاتها في سوريا وليبيا والعراق والصومال لوضع أنفها في الخليج عبر قطر، وغطرستها في شرق المتوسط، الأمر الذي لا تختلف معها الدول الثلاث الأخرى.
تقدم عبرة المصالحة الخليجية مع قطر درسا مهما في هذا المضمار، فنتائج قمة العُلا التي تبنت المصالحة في الخامس من يناير الماضي، كانت مصر جزءا منها، ولم تقتصر مخرجاتها على السعودية أو دول الخليج، حيث حتمت التأثيرات المتباينة على مفاصل العلاقة بين الدول الأربع أن يكون التوجه جماعيا حيال قطر.
تفكر القاهرة في مصير علاقتها بأنقرة على نفس المنوال القطري، فليس من أهدافها أن تأتي المصالحة معها على حساب الدول الخليجية الصديقة أو تشغلها عنها، وتبقى نوايا تركيا غير واضحة وما رشح من إشارات جيدة يمكن الانقلاب عليه بسهولة.
تعتقد تركيا أن المصالحة مع مصر قد تفتح لها أبواب الخليج التي أُشرعت مؤخرا ولم تفتح كاملة، وتأكدت أن امتلاك قاعدة في قطر لا يعني أنها أحكمت سيطرتها على منطقة الخليج، فهناك توازنات إقليمية ودولية دقيقة وعميقة لم تستطع تخطيها لمجرد وجود بضعة آلاف من قواتها في معسكر بالدوحة.
يضمن استمرار تحالف الرباعي العربي قطع الطريق على أي مناورة تقوم بها تركيا مع كل دولة، ويحافظ على مصالح دوله، ويؤطر لمحور يمكنه التعامل بصلابة مع تحديات متصاعدة، ويمكنه أن يصبح حائط صدّ في مواجهة أطماعها مستقبلا.
يمثل تبني رؤية إقليمية لدول الرباعي، حتى لو اختلفت في بعض التفاصيل، أحد عناصر الأمان المركزية في تحجيم محاولات تركيا المتوقعة للالتفاف، الأمر الذي تعيه القاهرة في ردودها المقتضبة للتعاطي مع رسائل أنقرة الأخيرة، بما دعاها إلى وضع المكونات القومية في مرتبة متقدمة، وتجاوز فكرة المصالح الضيقة والعبور بها إلى شيء أشمل على الساحة الإقليمية.
تنحصر مطالب مصر ودول الخليج في وضع حدّ لتدخلات تركيا السافرة، وعدم خرق القوانين الدولية، وتنسجم أفعالها مع أقوالها، وإذا استجابت لنداءات رفع يدها عن العبث في بعض الدول العربية، وأنهت الزجّ بالمرتزقة والمتطرفين والإرهابيين فيها يمكن الحديث عن تحسن منتظر.
يأتي جزء رئيسي من التفكير المصري الجماعي في إدارة الأزمة مع تركيا من رحم الحرص على استمرار التكتل الرباعي، وما يحمله من روافد على المستوى الاستراتيجي، لأنه يضع نواة لتحالف واعد، وصموده لحوالي ثلاث سنوات ونصف السنة في مواجهة قطر يمنح الفكرة بعدا واعدا في أيّ محكات أخرى، لأن ولوج مسار المصالحة جاء بعد مشاورات رباعية، ولو اختلفت النتائج من دولة إلى أخرى.
تكاد تكون هذه المقاربة غير بعيدة، وأكثر إلحاحا لتطبيقها مع تركيا، لأن مشروع أنقرة ممتد وطموح ومخيف، ويجد في فصل المسارات ميزة للوصول إلى أهدافه الخفية، وهو ما تفهمه القاهرة ويدفعها إلى عدم التفريط في التنسيق مع الرباعي العربي.
إذا استجابت تركيا للمطالب السياسية لن تقبل مصر أن تكون قريبة منها أكثر من اللازم، لأن النظامين الحاكمين في القاهرة وأنقرة يسيران على قطبين متوازيين، ولو استدعت بعض المصالح المُلحّة التفاهم لن يكون ذلك على حساب أي دولة عربية أو غير عربية، فما بنته مصر من تربيطات على المستوى الخليجي أو في شرق المتوسط لن تتمكن تركيا من هدمه عبر مصالحات تكتيكية.
كما أن أيّ تفاهمات مصرية – تركية تتجاوز حدود التهدئة وتدخل في طور متقدم من العلاقات ستكون لها انعكاسات على دول الخليج نفسها، ويُنظر إليها بعين الريبة من جانب قوى إقليمية ودولية لا ترتاح لهذا النوع من التقارب الذي يجلب الاستنفار وربما يُفقد مصر الكثير من المزايا التي حصلت عليها بمرونتها في الفترة الماضية.
تبدو تصورات القاهرة نموذجا للاعتدال، وظهرت تجليات هذه المسألة في الكثير من مواقفها مع الرباعي العربي، وبالشكل الذي يوفر بيئة قابلة للنمو، وأي مبادرة تضع تركيا ومصر في خانة واحدة لن تحقق أهدافها على المدى البعيد، الأمر الذي تدركه القاهرة وتعمل له ألف حساب، ولذلك ستكون أشدّ تمسكا بتحالفها الخليجي.