هل تصدق يحدث هذا في…

لا يحدث في بريطانيا أن تقضي يوما كاملا تدور بين الصيدليات للحصول على دواء ما، في أسوأ الأحوال إن لم تجده في الصيدلية القريبة من بيتك ستجده في الصيدلية الأبعد قليلا.
لا يحدث أن ينقطع الماء أو الكهرباء عن المنازل إلا ما ندر. أنا أعيش في منزلي نفسه منذ عشرين عاما بلندن، وأتذكر مرة واحدة انقطعت الكهرباء لبضع ساعات فقط، كان عطلا غريبا فالمنزل جوار بيتي لديه كهرباء، بينما المنزلان المقابلان انقطعت عنهما الكهرباء. ذلك حدث تاريخي عشته مرة واحدة. أيضا صادف حدث تاريخي آخر تسبب بانقطاع الماء عنا لبضع ساعات.
قد يمثل هذا الكلام ترفا لأهلنا في اليمن وليبيا والعراق ولبنان… لكن ثمة معادلة جديدة بدأت تحصل في البلدان الديمقراطية المطمئنة اجتماعيا بعد أن طالتها التغيرات.
البريطانيون سخروا من التاريخ عندما شاهدوا بأم أعينهم نفاد مناديل الحمامات من الأسواق “هل تصدق أن هذا يحدث في بريطانيا”! صحيح أن الأمر لم يستمر لكنه حدث بالفعل!
الأميركيون يتهكمون اليوم بعد اقتحام جموع الغوغاء لمبنى الكابيتول من أجل تغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية بجملة “هل تصدق أن هذا يحدث في أميركا؟”.
قبل أسابيع ترددت هذه الجملة بطريقة مخيفة، بعد أن انقطعت الكهرباء عن تكساس في طقس متجمد، واضطر غالبية السكان إلى حرق الأثاث العتيق للتدفئة وغلي الماء!
حدث هذا في بلد ما زال يتباهى بأنهم وصلوا إلى القمر والمريخ منذ عقود، فمن لديه هذا التاريخ في العلوم والقوة، يفترض ألا يعاني سكانه مثلما يعاني الليبيون واليمنيون والعراقيون.
الهبوط على سطح المريخ قصة ملهمة لبلد يفترض أن العلم ألهمه وأرشده إلى أهداف جريئة واستثمارات طويلة الأجل لتحقيقها. لا أن يلجأ سكانه إلى غلي الماء وحرق الأثاث للتدفئة.
اليمنيون يعرفون أن هذا حدث طبيعي في بلدهم، لكن مجرد تكرار جملة “هل تتخيل يحدث هذا في أميركا؟”، أمر يلفت مراكز الأبحاث ويصيب السياسيين بصدمة.
تكمن الصدمة في أن تتحول الخدمات الأساسية إلى سياسة، فتحوّل الدواء وتوفير الكهرباء والماء وشق الطرقات إلى سياسة سيكون نهاية السياسة.
أو بتعبير موشيه هالبيرتال أستاذ الفلسفة “لضمان ازدهار السياسة السليمة، ثمة حاجة إلى مرجعية الحقيقة والمصلحة العامة. لكن حين تتخذ جميع جوانب الحياة طابعا سياسيا، تموت السياسة بحد ذاتها”.
لذلك أرى فشل الحوكمة الرشيدة في البلدان العربية التي اتخذتها مثالا يبدأ من طريقة عدم استغراب السؤال ويتحول إلى: بالطبع يحدث هذا في العراق، ليبيا، اليمن، لبنان، مصر… عندما تفشل الدول في توفير الكهرباء للناس. لأن صنع كل شيء بالسياسة يشوه تماما قدرتنا على قراءة الواقع.