عراق العنف والصراع يفتح قوسا للهدوء والتسامح مع زيارة بابا الفاتيكان

المقدّرات الضخمة التي رصدتها السلطات العراقية لاستقبال بابا الفاتيكان وتأمين زيارته للبلد، تليق بالحدث التاريخي الذي تريد الحكومة توجيه رسالة من خلاله بشأن تعافي العراق واستعادة استقراره، بينما ترغب المرجعية الشيعية في جعله دليلا على اعتدالها وتسامحها الديني وقبولها بالآخر، فيما تريد عامة الشعب بما في ذلك أبناء المكوّن المسيحي أن تلفت نظر العالم، من خلال زيارة الحبر الأعظم، إلى معاناتها اليومية وسوء ظروفها جرّاء فشل الطبقة الحاكمة وفسادها.
بغداد - ألقى الوضع الأمني الهشّ في العراق بظلاله على الزيارة التي يبدؤها بابا الفاتيكان فرنسيس، الجمعة إلى العراق، وتستمر ثلاثة أيام.
وفي ظلّ فوضى السلاح السائدة في البلاد بسبب كثرة حامليه خارج نطاق الدولة من ميليشيات مسلّحة وعشائر، إضافة إلى فلول تنظيم داعش التي لم تنجح الجهود الأمنية في اجتثاثها بشكل كامل، فإنّ الإجراءات المشدّدة التي تمّ اتّخاذها عشية وصول البابا إلى العراق لم تلغ الهواجس من حدوث أي خرق أمني من شأنه أن يفسد الزيارة التاريخية.
وتتفاوت انتظارات العراقيين من زيارة البابا بين طبقة شعبية تريد لفت أنظار العالم إلى الأوضاع والظروف الحياتية المزرية التي تواجهها، وطبقة حاكمة ترغب في توجيه رسالة إلى الخارج مفادها أن البلد بصدد التعافي واستعادة الاستقرار بعد سنوات الحرب ضدّ تنظيم داعش، ومرجعية شيعية تريد تأكيد اعتدالها وتسامحها الديني وقبولها بالآخر.
ويظل من بقي من مسيحيي العراق المقدّر عددهم بأقل من نصف مليون فرد بعد أن اضطرت الغالبية العظمى من أبناء هذا المكوّن إلى الهجرة خارج البلاد تحت ضغط التهديدات الأمنية والظروف المعيشية الصعبة، أكثر فئات المجتمع العراقي احتفاء بزيارة البابا إلى العراق نظرا لما تحمله لهم من سند روحي ومعنوي بعد سلسلة المآسي التي عاشوها، وآخرها ما تعرّضوا له على يد مسلّحي تنظيم داعش وما ترتّب عن غزوه لمناطق تواجدهم في شمال العراق وغربه.
وعشية رحلته التاريخية إلى العراق وجه البابا فرنسيس رسالة “شخصية جدا إلى العراقيين” أشار فيها إلى “سنوات الحرب والإرهاب” ودعا إلى “المصالحة”.
وقال البابا في رسالة مصورة موجهة إلى الشعب العراقي بثّت الخميس “أخيرا سوف أكون بينكم.. أتوق لمقابلتكم ورؤية وجوهكم وزيارة أرضكم مهد الحضارة العريق والمذهل”.
هواجس أمنية ألقت بظلالها على زيارة البابا إلى العراق بسبب تهديدات فلول داعش وفوضى السلاح
وستكون الزيارة افتراضية بالنسبة إلى جزء كبير من العراقيين الذين سيضطرون للاكتفاء بمشاهدة البابا من خلال شاشاتهم مع فرض السلطات العراقية إغلاقا تاما من الجمعة إلى الاثنين بعد ارتفاع ملحوظ في عدد الإصابات بفايروس كورونا.
وأضاف البابا الذي تحمل زيارته شعار السلام والأخوة “إني أوافيكم حاجّا يسوقني السلام” من أجل “المغفرة والمصالحة بعد سنين الحرب والإرهاب”.
وأشار بشكل رمزي إلى النبي إبراهيم الذي يرد ذكر مدينة أور التاريخية قرب الناصرية جنوبي العراق في الكتاب المقدّس باعتبارها مسقط رأسه، قائلا “أسعى خلف الأخوّة وتدفعني الرغبة في أن نصلي معا ونسير معا، ومع الإخوة والأخوات من التقاليد الدينية الأخرى أيضا تحت راية أبينا إبراهيم الذي يجمع في عائلة واحدة المسلمين واليهود والمسيحيين”.
وفي الجزء المخصّص من رسالته للمسيحيين الذين لا يزالون في العراق، قال البابا “لا تزال في أعينكم صور البيوت المدمرة والكنائس المدنّسة وفي قلوبكم جراح فراق الأحبّة وهجر البيوت”، مضيفا “عسى أن يساعدنا الشهداء الكثيرون الذين عرفتم على المثابرة في قوة المحبة المتواضعة”.
وتابع قوله “أود أن أحمل لكم عناق الكنيسة بأسرها المفعم بالحنان.. الكنيسة التي هي قريبة منكم ومن الشرق الأوسط المتألم، وأن أشجعكم على المضي قدما. لا نسمحنّ للمعاناة التي عشتموها والتي تؤلمني كثيرا بأن تنتصر”.
وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان المسيحيون يشكلون أقلية كبيرة في العراق تضم حوالي 1.5 مليون عراقي. أما اليوم فأصبح عددهم يتراوح بين 300 ألف و500 ألف وفقا لتقديرات صادرة عن جمعية “لوفر دوريان” الفرنسية.
ومنذ بداية حبريته قبل ثماني سنوات وجه البابا فرنسيس رسائل إلى الشعبين العراقي والسوري المتجاورين واللذين عاشا لعقود تحت وطأة الحرب.
وورد أيضا في رسالة البابا فرنسيس “إخوتي وأخواتي الأعزاء لقد فكّرت فيكم كثيرا طيلة هذه السنين.. فيكم أنتم الذين عانيتم الكثير لكنكم لم تشعروا بالإحباط.. فكرت فيكم مسيحيين ومسلمين. وفيكم أنتم الشعوب مثل الشعب الإيزيدي، فكرت في الأيزيديين الذين عانوا الكثير الكثير.. حملت رجاء جديدا. رجاء الله. فليملأنا هذا الرجاء الذي يمنح الشجاعة من أجل إعادة الإعمار والبدء من جديد”.
وحرصت السلطات العراقية على توفير أقصى درجات الحماية والأمان لزيارة البابا. وشهدت الشوارع الرئيسية التي من المقرّر أن يسلكها موكب الحبر الأعظم وسط بغداد استعدادات غير مسبوقة، حيث نشرت السلطات العراقية آلافا من قوات الجيش والشرطة بجميع صنوفها في الشوارع وعلى طول الطريق الرابط بين مطار بغداد وتفرعاته التي سيسلكها الموكب، إضافة إلى نشر سيارات للأجهزة الأمنية على طول الطرق.
وبحسب مصادر أمنية عراقية، فإن السلطات العراقية أقامت أطواقا أمنية متعددة لتأمين الحماية لزيارة البابا في المدن والمناطق التي سيزورها وهي بغداد والنجف والناصرية ونينوى وأربيل.
وزينت اللجنة العليا المشكّلة لاستقبال البابا فرنسيس الشوارع بأعلام دولة الفاتيكان وأعلام العراق وجداريات كبيرة وأخرى متوسطة الحجم تحمل صورا للحبر الأعظم بشكل منفرد وأخرى مع المرجع الأعلى على السيستاني كتب عليها عبارات “أنتم جميعا جزء منا ونحن جزء منكم”، و”أنتم جميعا أخوة”، فضلا عن جداريات كتب عليها “أرض الرافدين تحييكم” و”مرحبا بكم في العراق”.
وعلى مقربة من ساحة الاحتفالات الكبرى وسط المنطقة الخضراء اصطفت العشرات من السيارات الحديثة ذات اللون الأسود للمشاركة في مواكب نقل الشخصيات والوفود الرسمية التي سترافق بابا الفاتيكان في زيارته.
وقامت الأجهزة البلدية بتزيين الساحات والشوارع بأنواع مميزة من الزهور بألوان زاهية تنسجم مع اقتراب موعد فصل الربيع في العراق، فيما زينت الكنائس والأديرة بمعالم الزينة والرسومات التي تحيي زيارة الحبر الأعظم.
