السورية فيفيان جبور تشكّل من الدخان مرثية لوطن مأزوم

أعمال جبور تفرض على المشاهد نوعا من الواقعية شديدة الوضوح والبروز، وهذه الحقيقة يلمسها المتلقي حين يتأمّل الكتب والمخطوطات، التي تجسّدها وتمنحها ألوانها الحقيقية.
الجمعة 2021/02/12
دموع بإحساس حجري عتيق

"دخان راقص" عنوان لمعرض جديد للفنانة التشكيلية السورية فيفيان جبور، والذي تتواصل فعاليته حتى نهاية فبراير الجاري في المركز الثقافي العربي أبورمانة بالعاصمة السورية دمشق. وفي معرضها تقدّم الفنانة الطبيبة أربعين لوحة زيتية بقياسات مختلفة، يجمع بينها خط فني مخصوص بها أساسه الدخان المتصاعد من شمعة ترثي وطنا مأزوما.

دمشق – بأداء واقعي لافت، يصل إلى حقائق الأشكال في ظلالها وألوانها وشاعريتها وأضوائها، وبإيقاع متوازن، يعتمد على الدقة في التأليف والدراية في التنفيذ، تقدّم الفنانة وطبيبة العيون السورية فيفيان جبور في معرضها الجديد الموسوم بـ”دخان راقص” تشكيلات ضبابية أساسها الدخان المنبعث من شمعة أو من ثنايا بعض العناصر المرسومة أو من أرضية اللوحة ذاتها، وكأنها ترسم دخان حرائق الأمكنة والمدن المنكوبة والمهجّرة.

وهي في ذلك تكسر أفقية الامتداد الواقعي التقليدي بهذه العناصر الدخانية المبسّطة والمختزلة وتمنحها خصوصية أسلوبية مميّزة تجمع بين التراث الفني والحاضر.

وعن معرضها المقام حاليا في المركز الثقافي العربي أبورمانة بالعاصمة السورية دمشق، تقول جبور “أعتمد في تقديم لوحاتي على صفاء الروح وعفوية السريرة، لذلك أضيف إلى الواقع التشكيل الفني من خلال الألوان الزيتية، فكل حالة أرسمها أو كل شكل أقدّمه له معنى يرتبط بأفق الإنسان ورؤاه”.

فيفيان جبور: الماضي هو الجميل والعريق، ولو لم يكن مميزا لما وصل إلينا
فيفيان جبور: الماضي هو الجميل والعريق، ولو لم يكن مميزا لما وصل إلينا

تفضّل الفنانة الرسم على القماش، فهو الأقرب إليها، حيث تراه قادرا على البقاء أكثر، إضافة إلى سهولة تحريكه والانتقال به وتأقلمه مع الألوان، وخاصة الزيتية منها التي تكوّن مع القماش حالة تماسك قوية تختلف عن الفحم والألوان المائية المهدّدة بالزوال لأيّ عارض.

وتشير الفنانة السورية إلى أنها تربط بين الماضي والحاضر في لوحاتها، “لأن الماضي هو الجميل والعريق، ولو لم يكن مميزا لما وصل إلينا”. وتضيف “أحاول في كل لوحاتي الجمع بين الغموض والمباشرة، حتى يكون الفن الذي أقدّمه من نوع السهل الممتنع، وأنا أفضل الواقع والواقعية في الفن لأن ذلك جزء من تفكيري، وكلي ثقة بأن ما أرسمه قادر على الوصول إلى المتلقي السوري بشكل خاص والإنسانية بشكل عام”.

وتعترف جبور أنها ترسم فقط متى وجدت في نفسها ضرورة للتعبير عمّا يعتمل في داخلها من حالات وانفعالات وجدانية، موضّحة “الدخان البادي في لوحاتي يقدّم دلالات كثيرة ممّا أحمله إلى الإنسان والوطن، كما يشكّل حالات قريبة مني مع الواقعية التي تميز لوحاتي دائما، وهو خالص ما أقدّمه في حالات صفائي الروحي”.

تقول الفنانة رباب أحمد، رئيسة المركز الثقافي العربي أبورمانة إن “هناك تقنية عالية في لوحات فيفيان جبور، لاسيما وأن الفنانة استطاعت أن تعبّر عن مكنوناتها الذاتية بتفاعل إنساني مع البيئات التي أخذت منها مواضيعها”.

وترسم جبور بعفوية خالصة وإحساس مرهف معتمدة على موهبة أضافت إليها ثقافة فنية متنوّعة منها التحاقها بمركز صبحي شعيب للفنون بمدينة حمص لتنمية ملكاتها الجمالية، واهتمت بالجمع بين الأصالة والمعاصرة من خلال الألوان الزيتية غالبا.

وفي لوحاتها ترسم الفنانة السورية الكتب القديمة والمرأة والآلات والنوتة الموسيقية والشمعدان والشمعة المشتعلة، والكتل المتكونة من ذوبانها، والمحبرة وريشة الطائر، التي كانت تستخدم في كتابة المخطوطات القديمة وغيرها، وتركّز لإظهار الدخان المتصاعد من هذه العناصر، على شكل سراب وجه أو حركة راقصة أو طير وغير ذلك، وهي في معظم أعمالها تميل لإظهار البعد الثالث مستخدمة تدرّجات الظل والنور، كما تمنح أشكالها أجواء التعتيق أو البعد الزمني.

فيفيان جبور: الماضي هو الجميل والعريق، ولو لم يكن مميزا لما وصل إلينا
الفنانة السورية تميل في جلّ أعمالها إلى إظهار البعد الثالث مستخدمة تدرّجات الظل والنور، مانحة أشكالها أجواء التعتيق

وعن الدخان الحاضر في جلّ لوحاتها، تقول جبور “يرى بعض النقاد المتابعين لمساري الفني أن رسم الدخان الذي بتُّ أعتمده في كل لوحاتي، هو في حدّ ذاته تقنية جديدة، فليس من السهل رسم خطوطه المتعرّجة بريشة دقيقة متعددة الأشكال وبألوان زيتية وليس كما يعتقد البعض بالأحبار، وكذلك الخلفيات في لوحاتي جاءت بشكل حجري على سطح أملس وهذه تقنية خاصة”.

وأعمال جبور تفرض على المشاهد نوعا من الواقعية شديدة الوضوح والبروز، وهذه الحقيقة يلمسها المتلقي حين يتأمّل الكتب والمخطوطات، التي تجسّدها وتمنحها ألوانها الحقيقية، التي تبدو قادمة من عمق الأزمنة، والتحدّي يكمن في محاولة رسم هذه المشاهد والعناصر بواقعيتها السحرية أو القصوى التي تميّزت بها.‏

احتراق رمزي قابل لكل التأويلات
احتراق رمزي قابل لكل التأويلات

وعن ثنائياتها البارزة في جميع لوحاتها تقريبا، والمقصود هنا دمجها بين الإيقاع البصري والسمعي، يقول الناقد الفني أديب مخزوم “العلاقة بين التشكيل والموسيقى البصرية تتعزّز بشكل لافت في لوحات جبور، لاسيما وأنها تجعل النوتة الموسيقية تشغل مساحات في بعض لوحاتها، وهكذا تصبح موسيقى اللوحة حقيقية، مثلما هي افتراضية في الدلالات اللونية والخطية”.‏

ومن هناك تبدو لوحاتها كصفحات من نوتات موسيقية ملونة لسيمفونيات أو مقطوعات منسابة كتداعيات أو رغبات أو ذكريات حاضرة في سياق التأليف والتلوين التشكيلي الذي يوحي بالموسيقى.‏

كل ذلك يسمح ببروز إيقاع موسيقي خاص لدلالة اللون في مساحة اللوحة، ولا يمكن في هذا المجال وصف أو تحديد تموّجات الحركة اللونية، لأنها مرتبطة باحتمالات لا متناهية على مستوى توليد الإيقاعات الموسيقية البصرية، وتحدّدها فوارق مرهفة شديدة الحساسية، تساهم فيها تضاريس المادة اللونية ولمسات الفرشاة ومداها الفيزيائي الطبيعي، وتنوّع الدرجات اللونية وموضع الطبقات وغير ذلك من المؤثرات البصرية اللامتناهية.

وتظلّ المرأة الموضوع المفضل لجبور، وهي التي جسّدتها في إحدى لوحاتها حاملة لآلتها الموسيقية “الكمان”، ومنظورا إليها من الخلف، حيث بدا شعرها بحركته طويلا منسابا في طلاقة ونعومة، بينما تحوّلت الخلفية إلى نوتة موسيقية. وهي تجسّد هذه العناصر والإشارات في لوحاتها، وبطريقة متدرّجة بين الواقعية السحرية والأداء الرمزي والخيالي الذي يمنحه الدخان المتصاعد بحركات توحي بأشكال من الواقع.

أما الشمعة التي رافقت جلّ مكوّنات لوحاتها، فغدت عند فيفيان جبور إحدى الأدوات التي تعتمد عليها وتوظّفها لتشي بكل المضامين الرمزية الممكنة، فهي عندها “الدعاء في ابتهالاتنا، يرافقنا في الصلوات والترانيم، وكانت في أخرى الأمل والحلم والأمان.. هي الدخان المتراقص”.

17