"نفس جديد" معرض للجيل الجديد من الفنانين المغاربة

المعرض يكسر الحدود بين الفضاء الأكاديمي والساحة الفنية.
الاثنين 2021/02/01
روح الابتكار في الفن المعاصر

في أغلب البلدان العربية، غالبا ما تكون العلاقة فاترة أو متذبذبة بين المؤسسات الأكاديمية التي تدرس الفنون وبين الساحات الفنية، حيث من النادر أن نجد تواصلا بين الفن داخل الأسوار الأكاديمية وخارجها، وهو ما يضرّ بالحركة الفنية، لذلك يتطلب علاجا مختلفا يخلق روابط قوية بين التكوين الجامعي والنقد وممارسة الفن.

الرباط – تشارك نخبة من الفنانين في المعرض الفني الثاني “نفس جديد” الذي يأتي في سياق عالمي أربك تصوراتنا حول الإنسان والحياة، وأضحت الحاجة ملحة إلى ترميم أعطابنا وهواجسنا بنفس جديد للاستمرار في مقاومة ما خلفه الوباء في ذاكرتنا.

يقدم المعرض تجارب فنية قادمة بقوة، تحمل قلقها الجمالي وخصوصيات تعبيراتها التشكيلية التي يتدفق منها الحلم بما هو أداة للسفر في الذات والعالم والإقامة في الفن بوصفها سؤالا للأثر المفتوح والتدفقات الحالمة.

فنانون شباب

يتحوّل رواق “كينيت” بطنجة إلى فضاء فني لكل إبدالات الجماليات المعاصرة التي تأثر بها الفنانون الشباب في سياق احتكاكهم بالتجارب الفنية التشكيلية الرائدة، التي احتضنتها طنجة وأبدع في دعم حضورها الفني المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان بفلسفته وسعيه الدائم إلى بناء علاقات التناسج بين الفضاء الأكاديمي وفضاءات العرض داخل المجال العمومي.

 وافتتح معرض “نفس جديد”، المنظم من طرف المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان ورواق “كينيت” ومعهد سيرفانتس بطنجة، في 30 يناير الجاري، ويستمر إلى غاية 6 مارس المقبل.

أعمال هؤلاء الفنانين الشباب تتقاطع في النزعة المفاهيمية لكونها إنتاجات فنيّة تتطلع إلى رسم الأفكار وتقديسها

ويقوم المعرض على فكرة ضرورة تقديم أسماء فنية من الجيل الجديد للمشهد الفني الوطني بهدف ضخ تعابير وأفكار لها طرافتها، والتعريف بمساراتها ورهاناتها التجريبية منذ مشاريع تخرجها، وعلى امتداد المدة الزمنية القصيرة، لدخولها حيز الاحتراف التشكيلي، بإسهاماتها المميزة عبر فعاليات فنية، ومسابقات، وتتويج بعضها بجوائز وطنية ودولية كما يشير إلى ذلك المهدي الزواق مدير المعهد.

وعن هذا المعرض يصرح الباحث والفنان التشكيلي مفوض المعرض عمر سعدون “لا شيءَ أجملَ من أنْ تعودَ الفنونُ إلى أحْضانِها الطبيعية النّابضة بالحياة؛ تلك الفضاءات التي تضْمن للإبداع سحر المواجهة والتفاعل المباشريْن، وبخاصة بعدما عاش العالم على إيقاع صادم سنة 2020، إيقاعٍ هيمن فيه فايروس كورونا الفتاك مُعيدا قِصصَ الأوبئةِ إلى الواجهة، ناشرا ظُلماته ومآسيه البشرية والنفسية والاقتصادية.. في معظم المجالات والأماكن”.

ويضيف “بموازاة ذلك، لم تسلم القطاعات الثقافية من الآثار السلبية الناجمة عن توقّف الحركة والفعل الاجتماعيين؛ حيث فرضت الضرورة الصحية انحباس المعارض والمتاحف بالقدر الذي أُجبرت فيه المسارح على التوقّف دون أن تلتفت إلى أنها لم تفعلْ ذلك منذ الحضارة الإغريقية أي منذ ظهور التراجيديا والكوميديا في أثينا الخالدة”.

ويرى سعدون أن جلل الفقدان التي تسببت فيه الجائحة كان كفيلا بأن يُقنع الفن بوصفه كائنا ماردا ومتمردا بإلزامية الحدّ من التواصل الاجتماعي المباشر، والاستعانة بوسائط رقمية تجعلنا “متباعدين معا” يجمعنا هدف ومصير أُحادييْن. ولعل تاريخ الفن أيضا يشهد بأنه نادرا ما كان يؤمن بالإجبار والخضوع والإلزام، فتلك مفاهيم لا ولن تدخل قاموسه ما دام يصبو إلى تحصين الحرية، حتى لو اقتضى الأمر أن تُمارس داخل حدود الجدران، ربما ذلك ما عبّر عنه جيل الفنانين الشباب إبان الحجر الصحيّ.

تجديد الرؤية الجمالية والتشكيلية
تجديد الرؤية الجمالية والتشكيلية 

ويلفت إلى أن الفنانين الشباب ناضلوا – بعد تخرجهم – بإرادة وإصرار كبيرين للاستمرار في الإنتاج نكاية في الجائحة، وتعبيرا عن شجاعة الاستمرار رغم كلّ المآسي والتهديدات، وهو ما نلمسه في الأعمال البصرية الشبابية للفنانتين رحمة الحصيك وهاجر المستعصم، والفنانين زياد المنصوري ورضا بودينة؛ حيث مارسوا حريتهم حتى وهم داخل جدران الحجر الصحي ليعبروا عما يجيش في وجدانهم من أسئلة وقضايا؛ أي عما اكتنف أفئدتهم زمنَ هيمنةِ تراجيديا الموت الغادر، زمنَ إغارة الكائنات الدقيقة على الكائنات المتجبّرة، في حرب لا تفاوضَ فيها ما عدا الانزواء والانعزال والتقوقع على الذّات؛ إنه سياق تاريخي ما كان ليغدو جميلا بعض الشيء لولا وجود فسحة الفن والإبداع وبعض سَدنة الثقافة والجمال.

ويضيف سعدون “ولأن الشباب هم الأمل، اخترنا أن تكون البداية معهم، تيّمنا بأسطورة دمائهم الفائرةِ بالإبداع، المهووسةِ بالحرية، الساعيةِ إلى تحقيق تجارب بصريّة يملأها النجاح، والأفكار، والتأويلات القلقة إزاء كينونتنا ومستقبلنا الإنساني”.

أعمال مفاهيمية

وبالعودة إلى المشاركين في هذه الاحتفالية، يقول سعدون “لا تخلو أعمال الفنانة رحمة الحصيك من الهواجس والأحلام العظمى؛ ذلك أن أرقَ البيئةِ يئنُّ تحت احتجاجات لوحاتها وأشكالها البصرية التي تناهض العلاقات المضطربة للكائن البشري بالمحيط والطبيعة، مستلهمة شخوصا تحتفي بالبياض كما بالكائنات والموجودات التي بات الإنسان ونزوعه الاستغلالي المتوحش يُهدِّدان وُجودَها”.

ويلفت إلى أن أعمال هذه الفنانة تعكس ببساطة ذلك العنف البشري المضاد التي يُخاض ضد المحيط؛ إنه عنف ضد الذات في المقام الأول قبل أن يكون عنفا يُهدد الكرة الأرضية، وما تنوء به من كائنات حية بريئة مُهَدَّدَة بسبب الجشع.

أما الفنانة الشابة هاجر المستعصم فتعرض أعمالها في معارض متنوعة؛ حيث تزدهر في لوحاتها أنماط تجريبية تنحو في أسلوبها صوب المعاصرة؛ حيث تجسّد ذواتا أطّرت جوهرها في اللون والسياج والمادة المتنوعة، تلك الذوات التي أربكها الزمن وتقلباته، فليست الإطارات المعدنية للدراجات الهوائية التي تؤطر رؤوس شخوصها إلا رمزا دامغا على كون الحرية ينبغي لها أن توجد في عقولنا قبل أن تنتقل إلى أجسادنا، إنها ترسم جدلية الذات والحرية في ما تعيشه المجتمعات الذكورية من إقصاء باسم العرف والمحافظة.

الاحتفاء بالبياض كما بالكائنات
الاحتفاء بالبياض كما بالكائنات

وعن أعمال الفنان زياد المنصوري يشير سعدون إلى أنها “لم تتخلّ عن كائنات الهامش التي أحزنها الحلم حينما تحوّل إلى كابوس، وأمام تعاظم الألم والفقدان؛ إذ يبدو ذلك جليا في الخطوط المتهاوية واللمسات الواهنة، وعلى الرغم من أن أشكال كائناته الإنسانية قد فقدت وهجها النفسي ونضارتها الطبيعية، إلا أنها لا تزال واقفة تأبى الانهزام، وترفض أن تجثوَ، بل تتطلع بعطش إلى الانتصار”.

في السياق ذاته، ينظر إلى سعدون تجربة الفنان رضا بودينة معتبرا أنه لا يجد أي حرج في الاعتراف بأن ذاته انقادت – في شبه ضرورة روحية – إلى ممارسة الكثير من الفنون بشكل فطري، لتتعزز تجربته بعد التخرج من المعهد بمعارف وأعمال بصرية تسعى إلى الإفادة من مختلف التيارات التشكيلية التي مارسها؛ حيث تتضايف أسس الكثير من الفنون والمواد أعماله متخذا أسلوب المزج وتداخل الأشكال الذي ينهض على التجريد الهندسي، مع توظيف مواد متنوعة من جميع الفضاءات ذات الارتباط الوثيق بالمعمار، ولعل المتلقي سيلاحظ أن شكل الدائرة يطغى في أعماله… إنّه يجسّد الدائرة الوجودية التي يمكن تأويلها بالزمن أو البداية من حيث النهاية، تلك الحركة الدؤوبة نحو مسايرة حركية التاريخ في علاقتها الحميمية بالذات والهوية.

تتقاطع أعمال هؤلاء الفنانين الشباب في النزعة المفاهيمية لكونها إنتاجات فنيّة تتطلع إلى رسم الأفكار وتقديسها، وهذا ما أعربوا عنه جميعا؛ إنهم يريدون أن يصنعوا منها أشياء عميقة وأشكالا مبهرة، تقول بصوت واحد ومقاوم إن "الفن نقيض القدر" على حد تعبير مالرو.

وأخيرا، عرّج المعرض صوب الاحتفاء بالفنّ التاسع عبر منح البطاقة البيضاء للفنان والمبدع عزيز أو موسى بوصفه أحد أهم الأسماء المغربية في رسم الأشرطة المرسومة والتحريك؛ فأعماله الفنية تنم عن تجديده وتطويره لأساليب الرسم والتحريك من خلال انفتاحه على مجموعة من المصادر الأدبية والمعرفية كالأسطورة والتاريخ؛ على غرار ما نجده في فيلم التحريك الوثائقي “سوليكة”؛ حيث كان سباقا في اكتشاف هذا النوع الذي يجمع بين براعة التقنية وأهمية التوثيق التاريخي.

وتحاول هذه المبادرة تغيير منهاج العلاقة التي عادة ما تجعل واقع الفضاء الجامعي بالمبدعين وثيقا، إلى دافع قوي نحو براديغمات فنية معاصرة قابلة لأن تشكل هويات فنية جديدة في مسيرة التشكيل المغربي وفنونه المعاصرة.

صورة

 

15