السودان أمام أوضاع تعيد إلى الأذهان تحديات هزت حكم البشير

الخرطوم - لم ينجح زخم الثورة والتسويات التي تمت بين مختلف المشاركين فيها في تبديد مخاوف السودانيين من مخاطر العودة إلى مربع الأزمات التي كانت وراء سقوط حكم الرئيس عمر حسن البشير، مع عودة المواجهات في دارفور، والتوترات على الحدود مع إريتريا وإثيوبيا، فضلا عن العجز الاقتصادي والتحريض الإخواني المستمر على حكم ما بعد الثورة.
وينذر التوتر على الحدود مع إثيوبيا بتطورات صعبة، حيث استردت قوات الجيش السوداني خلال الأيام الماضية نحو 85 في المئة من أراضي منطقة “الفشقة” كانت تسيطر عليها إثيوبيا، التي خرجت منها تصريحات متضاربة، بعضها يعلن الاستنفار العسكري، والبعض الآخر يناصر الهدوء والاستقرار.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، الثلاثاء، إنه لا مصلحة لبلاده في الدخول في حرب مع السودان، ومع ذلك يتواصل التوتر الحدودي، على خلفية هجوم شنته ميليشيات “الفشقة” مدعومة من قوات نظامية على الجيش السوداني.
ويتزامن التصعيد الحدودي في الجنوب الشرقي للسودان مع تصعيد قبلي بإقليم دارفور في الغرب، راح ضحيته عدد من المواطنين، ودفع بالمزيد من التعزيزات العسكرية، في محاولة للسيطرة على الأمور، وسد الفراغ الذي يتوقع أن يحدثه انتهاء مهمة العملية المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة (يوناميد) مع نهاية العام.
وبالتوازي مع التوتر الأمني في الحدود الجنوبية والغربية لم تستقر تماما الحدود الشرقية، القريبة من إريتريا، فلا تزال التداعيات التي خلفتها أزمة تعيين والي كسلا تلقي بظلالها، إذ أن روافدها الاجتماعية لم تهدأ، ما أدى إلى زيادة أعباء المؤسسة العسكرية.
وتضاعف التوترات الراهنة مأزق اتفاق السلام في جوبا، الذي وقعته السلطة الانتقالية مع الجبهة الثورية التي تضم حركات مسلحة، منذ ثلاثة أشهر، فالكثير من بنود الاتفاق لم يتم تطبيقها، وبعض الحركات في الجنوب والغرب لم توقع عليه، ما يزيد الأمر تعقيدا، ويجعل فرص التوتر متساوية مع الهدوء تقريبا.
وتعظّم عودة شبح الصراعات على حدود السودان دور المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، وتقلل فرص تهميشه عند إعادة ترتيب المرحلة الانتقالية مرة ثانية بعد التوقيع على اتفاق جوبا، والتي تواجه بتحديات سياسية وأمنية كبيرة.
ومع اتساع نطاق الصراعات، يجد الجيش السوداني نفسه في صدارة المشهدين العسكري والسياسي، ويخفت صوت الحكومة المدنية التي لم تجد بدا من تأييده على استحياء، اتساقا مع دواعي الاصطفاف الوطني، وخوفا من حدوث توترات تؤثر على الجسم المزدوج (العسكري والمدني) لمجلس السيادة، ومنح قوى المعارضة المحسوبة على نظام الرئيس السابق عمر البشير فرصة لاستغلال الموقف.
وتمنح السخونةُ الزائدةُ على الحدود الجيشَ السوداني ميزةً قد تبعده عن الغرق في المشكلات الداخلية، حيث يزداد الوضع الاقتصادي سوءا، وهو ما تقع تبعاته على عاتق حكومة عبدالله حمدوك وحدها، باعتبار أن الجيش منشغل بالدفاع عن الوطن.
كما يعيش السودان على وقع حملات إخوانية متعددة بسبب الخطوات التي قطعت لتفكيك نفوذ نظام الحركة الإسلامية، وكان آخرها الحملة التي خاضتها أدوات إخوانية في الخارج على قرار حل هيئة علماء السودان ومصادرة أملاكها، وهي هيئة تابعة للاتحاد العام لعلماء المسلمين الذي هو واجهة سياسية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
ويشير مراقبون إلى أن رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ورفاقه في المؤسسة العسكرية تعاملوا ببراغماتية في أزمة الحدود مع إثيوبيا، ووجدوا فرصة لإحراج أديس أبابا، فإما أن تقر بعودة منطقة “الفشقة” ومواجهة عصابات “الفشقة”، أو تواجه مأزقا كبيرا في ظل أزمة تيغراي.
وليست أوضاع السودان أفضل حالا من إثيوبيا بشأن المأزق الذي يواجهه كلاهما، والأهداف الخفية التي يرمي إليها كل طرف، حيث يوجد اقتناع بأهمية الهدوء بينهما، لكن التنازلات المطلوبة صعب تحقيقها وسط توازنات داخلية حرجة.
وتنحاز قيادات عسكرية في الدولتين إلى خيار أشبه بـ”مواجهة منضبطة” يمكن أن يستفيد منها هؤلاء في تعزيز نفوذهم داخل سلطة مهتزة في الخرطوم وأديس أبابا.
وأكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة أفريقيا الدولية في الخرطوم، محمد خليفة صديق، أن الحكومة الإثيوبية تقدم دعما ملحوظا لعصابات “الفشقة”، وقامت ببناء قرى وتعبيد طرق في “الفشقة الصغرى” منذ فترة، كمحاولة لتكريس أمر واقع يصعب تغييره، وهو ما يرفضه الجيش السوداني.
وأضاف صديق في تصريح لـ”العرب”، أن التوقيت الحالي ليس له دلالة سياسية، فالجيش لا يسأل متى وكيف يتحرك؟ حيث يختار الوقت المناسب، وهذا تقدير يرتبط بحسابات عسكرية ولوجستية لا علاقة لها بتطورات إثيوبيا، لأن بداية المناوشات جاءت من جانبهم، ووصلت إلى حد تعرض قوات تابعة للجيش السوداني إلى القصف بمدفعية ثقيلة.
وحذر مراقبون من إمكانية حدوث فوضى على الحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا -بالتزامن مع تزايد حدة أزمة اللاجئين الفارين من إقليم تيغراي إلى داخل السودان- تصب في صالح قوى معارضة على الجانبين، وتؤدي إلى انفلات قد يجعل الحرب خيارا لا مفر منه.
وتعيد هذه الأجواء المعقدة شبح تصورات البشير، الذي انخرط في أزمات على الأطراف، كان عمادها ووقودها الجيش السوداني، حيث سخره لتحقيق أهداف سياسية من خلال الزج به في حروب بالغرب والجنوب والشرق، ربما تتقدم أو تتأخر، لكنها في المجمل مثلت مدخلا للحفاظ على السلطة لمدة ثلاثة عقود متصلة.
وتخشى قوى سودانية أن يقود انغماس الجيش حاليا في أزمات حدودية إلى ارتخاء القبضة الأمنية في العاصمة الخرطوم، ما يساعد عناصر معارضة كامنة تسعى للانقضاض على الثورة في الخروج إلى الشارع، واستغلال المشكلات التي تعاني منها الحكومة، وانهماك الجيش في حرب مع إثيوبيا، وفض نزاعات في الغرب والشرق.
وخلّف النظام السوداني السابق وراءه ميراثا سلبيا لحكم الجيش الذي انشغل رئيسه الأعلى (البشير) بحروب مختلفة على حساب حل أزمات البلاد بالطرق السياسية، لذلك فاللجوء إلى الحلول العسكرية في أي من أقاليم السودان يصب مؤقتا في صالح المكون العسكري، لكنه سوف يؤثر على وحدة البلاد.
وضرب سودانيون مثلا تفضيل البشير التضحية بجنوب السودان على اتخاذ جملة من الخطوات العملية التي تعزز المواطنة، وتفسح المجال لإصلاحات سياسية تستوعب جميع الأطياف، وفي النهاية انفصل الجنوب ورحل البشير، وبقي السودان يئن حتى الآن.
وتؤثر الأوضاع الملتهبة واحتمال توظيفها من قبل الجيش على صورة السودان الجديد، الذي قطع شوطا كبيرا لتطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي بعد رفع اسمه من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب مؤخرا، ويقلل تنامي الأزمات في المركز وعلى الأطراف من فرص توظيف هذه الخطوة سياسيا واقتصاديا.