لبنى الأمين فنانة تجريبية تقف على قاعدة صلبة

التشكيلية البحرينية فنانة مغامرة تهوى التجريب، لا تتقيد بما تعلمته إلا في حدود إخلاصها للتقنيات والمواد.
الأحد 2020/12/27
لبنى الأمين ما بعد المادة وما وراء التقنية

في ستينات القرن العشرين صار الشغف بالمادة عنصرا أساسا في بناء اللوحة. صارت المادة تلعب دورا مؤثرا في صناعة اللوحة. لم يعد الخشب الذي يرسم عليه الفنان لوحته على سبيل المثال مجرد سطح تُلقى عليه الأصباغ ليختفي أي أثر له في ما بعد. صار الخشب بملمسه وألوانه وآثار الزمن الذي حفرت عليه خطوط سيرها جزءا من السطح التصويري.

البحرينية لبنى الأمين احتفت بالخشب بطريقة لم يفعلها فنان عربي آخر. ولها في ذلك أسبابها الموضوعية التي سلمتها في ما بعد إلى غواية المادة.

في البدء سحرتها الأبواب القديمة لتتخذ منها مدخلا شخصيا لمعالجة موضوعة التراث الجمالي الذي حاولت أن تنظر إليه بطريقة معاصرة وتستحضره بأسلوب يمتزج من خلاله الفن الجاهز بفن الرسم.

الماضي باعتباره حاضرا

كانت الأبواب التي استعارتها من الواقع في حد ذاتها أعمالا فنية من جهة تعاملها المباشر مع الزمن، غير أن الفنانة اجتهدت في أن تضفي على تلك العلاقة طابعا شخصيا حين أنهت صلة الخشب بصورته المستهلكة. لم يعد الباب بابًا بل استعاد حالته الأولى من غير أن يفرط في علاقته بالزمن. كانت الأمين جريئة في تقديم لوحات لا تخضع للشروط والمقاييس السائدة. وهي في ذلك إنما فتحت أمام الواقع الفني في بلادها الأبواب على وعي جمالي مختلف يبشر بتمرده.

لم تكتف بالعمل على تطوير أسلوبها الشخصي بل توسعت في مسعاها التفاعلي من خلال الورش الفنية التي كانت عبارة عن مشاريع مفاهيمية يمتزج من خلالها الفكر بالفن. كل مشروع منها هو بمثابة حدث فني قائم بذاته.

الرسامة تحاول استنطاق موادها كما لو أن تلك المواد الخام لا تزال تحمل أسرارها التي هي جوهر وجودها. لذلك يمكن القول إن الأمين لا تعبئ لوحاتها معانيَ بقدر ما تحاول استخراج تلك المعاني من أعماق المادة

“نزل 88” في العام 2013 و”العمارة 1466” في العام 2014 و”البيت” عام 2018 وأخيرا “بيت البنك”. كانت الفنانة في مشاريعها التي هي ورش فنية تجمع عددا من الفنانين في إطار حدث تاريخي لم يكن مجرد ذكرى بل ساهم في بناء الحياة المعاصرة في البحرين. كانت الفكرة تنطلق من الحيوية الكامنة في المكان.     

يقيم الفنانون في تلك الورش علاقة بالمكان من جهة ارتباطه بالحاضر والمستقبل. سيكون من الصعب وصف الإيحاء في غياب مصدره في حين يكون كل شيء يسيرا إذا ما كان المكان حاضرا بقوة إلهامه.

لقد تعلمت الأمين الكثير من الدروس من علاقتها بالأبواب؛ الحرص على المادة الأصلية، واستلهام تأثيرها الجمالي، والعمل على إبقائها حية من غير إخفائها. تلك تقنيات ستعينها على تنظيم أفكارها وفي الوقت نفسه ستفتح أمامها آفاق الحداثة الفنية.

عن طريق مشاريعها تأملت الأمين أفكارها عن بعد وصار عليها في ما بعد أن ترى نفسها في مرآة مختلفة. لقد اكتشفت أن عليها أن تمضي بتجربتها بعيدا عما ألفته وعما انتهت إليه.

البحرينية لبنى الأمين احتفت بالخشب بطريقة لم يفعلها فنان عربي آخر
لبنى الأمين احتفت بالخشب بطريقة لم يفعلها فنان عربي آخر

ولدت في المحرّق ودرست الإعلام في جامعة القاهرة، وتخصصت بعلوم الحاسب الآلي. أما الرسم فقد درسته في البحرين ومصر وسويسرا في دورات حرة. أقامت معرضها الشخصي الأول في عام 1999 بالبحرين، أما معرضها الشخصي الرابع فقد أقامته في قاعة أوروبا بباريس. شاركت في ترينالي الحفر الطباعي بباريس عام 2000 وفي بينالي القاهرة وبينالي الشارقة عام 2001، كما شاركت في بينالي المطبوعات الصغيرة بمقدونيا عام 2002. في موسم أصيلة الثقافي بالمغرب عرضت أعمالها غير مرة.

دفعها شغفها بالتقنيات المعاصرة إلى الاهتمام بتجارب الكثير من الفنانين الذين خرجوا عن المفهوم التقليدي للوحة واستعملوا المواد المختلفة في صناعة لوحاتهم. ما تعلمته الفنانة من ثقافتها الفنية الخاصة أكثر بكثير مما تعلمته من الدورات الفنية التي درست فيها الرسم.

كان ضروريا بالنسبة إليها أن تدرس الرسم ولكن الأهم من ذلك كان يكمن في ما تتعلمه من طرق الرسامين في التعامل مع المواد المستعارة من خارج عالم الرسم التقليدي. لذلك سحرتها التكعيبية، لكن على مستوى التفكير في القيم الجمالية التي تنطوي عليها عملية استضافة المواد في اللوحة.

حساسيتها الفنية التي تُعدي

 أشكالها مبنية من تفاصيل غير جاهزة
 أشكالها مبنية من تفاصيل غير جاهزة

الأمين رسامة من طراز خاص. فهي تعلمت فن الحفر الطباعي لا من أجل أن تكون حفارة كما أعتقد بل من أجل أن تفهم ما الذي تعنيه عملية الحفر في المادة. يهمها التأثر أكثر مما تهمها النتائج. إنها ابنة التجربة وهي تحرص على أن يكون الرسم خلاصها. بالنسبة إليها سيكون كل شيء مؤجلا؛ ربما إلى أن تنتهي التجربة. تلك مجرد فكرة. غير أن الرسم يقع في مكان آخر. ستحرص الفنانة على أن تتعلم ما يحرّضها على نسيانه.  

طورت الأمين مفهوم الورشة الفنية حين انفتحت به على المكان؛ فالورشة بالنسبة إليها ليست تجمعا للفنانين من أجل أن ينتجوا أعمالهم بعيدا عن عزلات محترفاتهم. ذلك ما يمكن القيام به في أي زمان ومكان. كان مفهومها للورشة ينبعث من فكرتها عن مكان، سبق لماضيه أن أسس ظاهرة في التاريخ البحريني المعاصر ويُراد من المساهمين في الورشة أن يستلهموا ذلك المكان في أعمال معاصرة؛ أعمال يمكنها أن تكون استمرارا للظاهرة التي يمتزج فيها الثقافي بالاجتماعي.

ولو أخذنا الورشة “العمارة 1644” التي نظمتها سنة 2014 لتعرّفنا على تاريخ مجاور؛ فالعمارة المقصودة هي واحدة من المباني التاريخية في مدينة المحرق كانت من أهم المراكز التجارية في البحرين. فهي تتألف من عدد من المخازن التي توزع فيها المواد الغذائية كالرز والتمور والسكر وسواها.

في المكان ما يُلهم وما يُوحي. وهو ما كانت تأمل الأمين أن يكون مسرحا للتفاعل بين الفنانين؛ بين بعضهم البعض وبينهم وبين المكان. ما فكرت في إنجازه على مستوى جماعي يعطي صورة عن علاقتها الاستلهامية بالتراث. وهي علاقة لا تعتمد على النقل. فهي لا تنقل مفردات جمالية قديمة لكي تعلن من خلالها اهتمامها بالتراث بقدر ما تسعى إلى الامتزاج بالحالة التاريخية بحيث تتشبع خطوطها وألوانها بالحكايات التي يمكن أن يسمعها المرء من خلال تأمل قطعة أثرية أو مكان مهجور. هناك إحساس مختلف يتدفق من قلب المادة. 

جراة في تقديم لوحات لا تخضع للشروط والمقاييس السائدة
جراة في تقديم لوحات لا تخضع للشروط والمقاييس السائدة

لقد حاولت أن تُعدي الآخرين بحساسيتها الفنية. وهي حساسية تجمع الماضي بالحاضر من غير أن يكون ذلك الجمع مثقلا بأي نوع من الرمزية. فالحياة التي تحاول استعادتها تمر بخفة فلا تبقي سوى جرأتها على أن تتفوق على عصرها.  

الأمين فنانة مغامرة تهوى التجريب. لا تتقيد بما تعلمته إلا في حدود إخلاصها للتقنيات والمواد. وهي إذ ترسم تتماهى مع أقصى ما تنطوي عليه المادة من خزين تعبيري. مَن يتأمل لوحاتها عليه أن يستغرق في تفاصيل صغيرة قد تخونها النظرة السريعة العابرة. فأشكالها مبنية من تفاصيل غير جاهزة. تتشكل تلك التفاصيل أثناء عملية الرسم. وهي عبارة عن ملاحظات لم تكن موجودة قبل الرسم.

تلك هي ملاحظات الرسامة التي تحاول استنطاق موادها كما لو أن تلك المواد الخام لا تزال تحمل أسرارها التي هي جوهر وجودها كله. لذلك يمكنني القول إن الأمين لا تعبئ لوحاتها معانيَ بقدر ما تحاول استخراج تلك المعاني من أعماق المادة التي تشكل أساسا لبناء لوحاتها. وذلك هو المبدأ الذي أقامت عليه الأمين علاقتها بالتراث لا باعتباره نتاج ماض فكري واجتماعي بل باعتباره بيئة جمالية لا يزال في إمكانها أن تحث على التأمل والاكتشاف والاستخراج.

لبنى الأمين فنانة تجريبية غير أنها تقف على أرض صلبة.  

9