خمسون مغنيا مغربيا يوثقون مئة أغنية من فن الروايس الأمازيغي

الرباط- تتميّز مدن الجنوب والداخل المغربي بنمط موسيقي مختلف يرتبط بأبعاد عميقة من التعبير عن الذات والهوية والآخر، ويسمى بـ”فن الروايس”.
هذا الفن الذي تعشقه شريحة كبيرة من الأمازيغ سواء في المغرب أو حتى الدول المغاربية عامة، نظرا لكونه يعبّر عن هويتها وتاريخها، ساهم مؤدّوه من “الروايس” و”الرايسات” (قائد وقائدة الفرقة الموسيقية) من خلاله في الحفاظ على اللغة الأمازيغية عبر التاريخ وانتشارها في المدن الكبرى، حتى أنّ البعض اعتبروا تغني الروايس بالأمازيغية نشاطا نضاليا، فالرايس الذي يغني باللغة الأمازيغية يمنحها الحياة كما يعبّر عن وجوده وهويته.
وللحفاظ على حضور هذا النمط الفني، يعمل باحثون مغاربة على تأريخه وتجميع الأعمال الموسيقية النادرة والشهيرة في أسطوانات وتدريب أجيال من المغنين والموسيقيين عليها.
وأصدر الباحث المغربي إبراهيم المزند، بحثا موسيقيا بعنوان “أنطولوجيا الروايس.. رحلة في عالم الروايس”، وضمنه مئة مقطع موسيقي، في عشر ألبومات، وألف نسخة مطبوعة، وثلاثة كتيبات أتت بالعربية والفرنسية والإنجليزية، وبمشاركة ثمانين موسيقيا منهم خمسون مغنيا ينتمون إلى مدن مغربية عديدة، هي أغادير وإنزكان ومراكش والدار البيضاء والصويرة وورزازات.
وجاء بحث المزند بعد عامين من الاعتكاف والعمل الميداني، كانت بدايتهما بحصص طويلة من التسجيل والتصوير لتجميع ثلة من الأغاني الخالدة في التراث الأمازيغي القديم، وكذلك بعض أغاني الجيل الجديد من الروايس، في مرجع موسيقي واحد.
وضمّن المزند بحثه الموسيقي كتيبا بثلاث لغات، يوضّح أصول موسيقى الروايس وتاريخها وتطوّرها بمرور الزمن وإيقاعاتها الخالدة، كما تناول مسيرة مجموعة من أشهر أسماء الروايس والرايسات في المغرب، الذين أصبحوا رواد هذا التراث الأمازيغي الأصيل.
ويعتبر الباحث الموسيقي محاولته في توثيق جزء من هذا الفن تكريما للروايس والرايسات، الكنوز البشرية الحية التي تواصل الحفاظ على هذا التراث الفني الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من التراث الموسيقي المغربي.
وصار “أنطولوجيا الروايس.. رحلة في عالم الروايس”، مرجعا موسيقيا ونافذة لمن يستكشفون تراث الروايس لأول مرة، إذ إنه يتطرّق لتاريخ موسيقى الروايس وأصلها وتطوّرها بمرور الزمن وإيقاعاتها وألحانها المختلفة، بالإضافة إلى الرقصات المتعددة أثناء العروض. وتأتي الألبومات المرفقة لتغني جملة من المعارف النظرية وتمنح القارئ تجربة فريدة من نوعها.
وأوضح المشرفون على البحث أن هذا العمل يشكل نتاج عامين من العمل والعديد من حصص التسجيل والتصوير لتجميع أكثر ما يمكن من الأغاني الخالدة في التراث الأمازيغي القديم، وكذلك البعض من أغاني الجيل الجديد من الروايس.
ويُعدّ فن الروايس المنتشر بكثرة في جهة سوس ماسة، إحدى الجهات المغربية، أحد أقدم الفنون بسوس والجنوب المغربي عموما، وأنجبت الساحة الفنية عمالقة منه في هذا المجال، ذاع صيتهم سواء على المستوى المحلي أو الوطني العربي أو حتى العالمي، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة.
فن الروايس، الذي يؤلّف عادة من جملة موسيقية واحدة تتكرّر عدة مرات، اتخذ كأداة للتوعية بالأبعاد الوطنية والروحية
والرايس، كما توحي بذلك التسمية، هو رئيس وقائد المجموعة الموسيقية، ولقيادتها يشترط فيه أن يكون خطيبا طلق اللسان ومتمكنا من فنون الشعر والتلحين والعزف والغناء. ويقود الرايس مجموعته بآلة الرباب، وهي أبرز آلة في فن الروايس، قبل أن يتم تطويره وتدعيمه بآلات موسيقية حديثه، تضفي نوعا من الجمالية على هذا النمط الموسيقي دون إفقاده هويته.
وكانت بداية هذا النمط الغنائي مع الجوّالين الذين يطوفون الريف والمدن بأشعارهم التي تتطوّر بناء على السجال والحوار بين أكثر من شخص، ويشير الدارسون إلى أن هذه الأشعار المغناة كانت أحد أبرز أسباب حفظ اللغة الأمازيغية وجزء كبير من تراثها يتضّح في ما راكمه هذا الفن من تجارب حياتية اهتمّ أصحابها بتناول الواقع والاشتباك مع قضاياه.
ويعتمد الرايس (وجمعه رواس وروايس) على العديد من الآلات الموسيقية الشعبية التي لا تزال تستخدم إلى اليوم، ومنها الرباب، ولوطار، وهي آلات وترية ميّزت هذا النمط الموسيقي كحالة إبداعية فردية خارج سلطة الجماعة.
وكانت أولى محاولات تسجيل لأشرطة مغني الروايس في ثلاثينات القرن الماضي، وحظي إثرها هذا الفن بانتشار واسع في المغرب، لتتطوّر تقنياته وأساليبه بفعل التجريب الدائم.
واتخذ هذا الفن الذي يؤلّف عادة من جملة موسيقية واحدة تتكرّر عدة مرات، كأداة للتوعية، ذات بعد وطني وروحي، وجعلها الروايس خاضعة لشروط وضوابط محدّدة تحافظ على أصالتها، ومن أشهر الروايس في المغرب الحاج بلعيد وبوبكر أنشّاد وبوبكر أزعري وجانطي وغيرهم.
ويعتبر الحاج بلعيد مؤسّس هذا النمط الغنائي، وقد تناولت أغنية الروايس تقريبا كل المواضيع التي تهم، ليس الإنسان الأمازيغي فحسب، ولكن الإنسان بشكل عام، كالهوية واللغة والحرية والمقاومة والدين والحرب والتكنولوجيا والحب والمرأة والقيم والمثل العليا.
وتعتبر موسيقى الروايس قريبة من الألحان الموسيقية الشعبية السائدة في أغلب المناطق الأفريقية من جهة، وبين الأنماط الموسيقية المغربية التي تشمل المناطق الصحراوية كالموسيقى القناوية، وكذلك نوبة الرصد في الموسيقى الأندلسية.