فائقة الحسن رسامة الناس الصغار في أسفارهم

الرسامة البحرينية تفتح أبواب متاهة سيمتزج الضائعون بين دروبها بهوائها الذي هو مزيج من الغضب والحنان، فالرسامة الغاضبة من أجل ناسها الصغار تغمرهم بالحنان في الوقت نفسه.
الأحد 2020/12/13
الفن بفكر معاصر

نادرا ما اقترب الرسامون من عالم الناس الصغار بالمعنى الوجودي. فمثلما هم يعيشون في عالم خفائهم فإن صورتهم لم تكن تشكل عنصر إغراء للبحث عن حقائق حياتهم. 

الرسامة البحرينية فائقة الحسن كانت استثناء في ذلك المجال. لقد صار أولئك الناس الصغار هاجسها في التعبير عن إنسانيتها. وفي الظل هناك رسالة سياسية لا علاقة لها بالعقائد. فهل يمكن التعبير عن القهر الذي يشكل العامل المشترك الذي يلتقي عنده أولئك البشر؟ 

ليس أحمر تماما

 الحسن تلعب على سطح تمكنت من عناصره
 الحسن تلعب على سطح تمكنت من عناصره

كنت في أوقات سابقة قد رأيت عددا من أعمالها التي استعملت الطربوش مادة أساسية أو وحيدة أحيانا فيها. كانت هناك نزعة رمزية واضحة. غير أن العودة إلى معرضها الرئيسي “ليس أحمر تماما” تعطينا فكرة عن رؤيتها للناس الصغار. وهي رؤية ليست متفائلة بقدر ما تسعى إلى نزع القشرة الخارجية للوصول إلى الحقيقة التي قد تكون صادمة. 

ولأن الرسامة أولت فكرة السفر اهتماما كبيرا فإن الناس الصغار الذين يتعرضون للهيمنة أو المصادرة هم بطريقة أو بأخرى مسافرون بين “مدن العالم” التي خصتها الفنانة بمعرض كبير. 

الحسن التي تنظر من نافذة الطائرة يمكنها أن ترى أولئك الناس الصغار وهي أيضا لا تغفل عنهم حين يتعلق الأمر بالسلطة الذكورية التي يمثلها الطربوش في كل تجلياته. 

كان الطربوش وسيلتها للانتقال إلى الفن المفاهيمي حين استعملته باعتباره مادة جاهزة. وإذا ما كانت الحسن في رسومها تتوزع بين اليقين الجمالي والشك الفكري فإنها في الفن المفاهيمي تفرغت للفكرة وجعلتها موضع اهتمامها. ولم تكن الفكرة بعيدة عن هاجسها الشقي؛ أولئك البشر الذين يعيشون سفرا يوميا في حياتهم العادية.     

للوهلة الأولى يبدو أولئك الناس الصغار كما لو أنهم نوع من الزخرف. سيكون من غير النافع العودة إلى ما تقوله الرسامة فمن حقها ألّا تفصح عن كل أسباب ذلك. تقول “ربما بغير وعي تأثرت بالمنمنمات لأنني قارئة للشعر”. تلك حقيقة غير أن لجوء الفنانة إلى الفن المفاهيمي سينزلق بنا إلى مكان آخر لا مكان فيه للشعر. 

في وعيها تقول الحسن أشياء واضحة. ربما ذكرتنا رسومها بالبشر الذين استخدموا سخرة لبناء الأهرامات. فهي حين تنطق بكلمة الإنسان تصمت قبل أن تستأنف حديثها. الإنسان يعذبها. التفكير في الإنسان هو الجانب الخفي من حياتها. في رسومها هناك متاهة مفتوحة على أفق لانهائي. أيستمر الضياع إلى ما لا نهاية سيدتي؟ 

مكر اللغة

هي شخصية ليس من اليسير العثور على مفاتيح أبوابها كلها
هي شخصية ليس من اليسير العثور على مفاتيح أبوابها كلها

ولدت في البحرين وأنهت دراسة الإدارة والاقتصاد في بغداد عام 1977. بعد سنوات من عودتها إلى البحرين شعرت بأن عليها أن تباشر تنفيذ حلمها في أن تكون رسامة. كانت رغبتها في أن تكون رسامة قد فاجأتها حين كانت في بغداد، غير أنها استطاعت أن تتحكم بها يومها لكن حياتها في البحرين سمحت لها بالتصالح مع موهبتها. 

درست الرسم على أصوله في محترف رسامة أميركية التقتها في جمعية البحرين للفنون التشكيلية. بعدها صارت تتنقل بين محترفات الرسامين في البحرين وخارجها. قضت سنوات وهي ترسم الطبيعة والإنسان لتتماهى مع الدرس الأكاديمي. “لقد صرتُ رسامة”، كانت تلك العبارة تمثل حلمها. كانت لديها رغبة في أن تتمكن من استيعاب العالم بصريا، أن تنطق أصابعها بلغة الكائنات المرئية. وحين حققت ذلك الحلم جلست على مقعدها واستراحت مفكرة في مشاريعها الشخصية التي ستنفذها من خلال الرسم. 

حينها صارت الحسن تلعب على سطح تمكنت من عناصره. غير أن لعبها كان ممتزجا بالأفكار، فهي شخصية ليس من اليسير العثور على مفاتيح أبوابها كلها. ولأنها مسافرة من طراز سعيد فسيكون من المناسب النظر إلى طريقتها في النظر إلى الأشياء وهي تتحول، تظهر وتختفي، تكبر وتصغر. هناك تقيم لغة مكر فنّها الصامت.

أقامت معرضها الشخصي الأول عام 2007. بعد ذلك المعرض أقامت عددا من المعارض الشخصية في البحرين وخارجها. وهي عضو في جماعة “باب” التي تقيم معارضها بين حين وآخر في الخارج. ولقد رأيت طرابيشها في قاعة ”ساجي اند ساجي“ بلندن ضمن معرض افتتحته الجماعة قبل سنوات.  

المسافرة في أفكارها

 أن تسافر وأنت في مكانك
أن تسافر وأنت في مكانك

“تراحيل” معرضها الذي أقامته عام 2014 معرض فريد من نوعه. لا على مستوى الشكل حيث كانت نافذة الطائرة هي المفردة الرئيسة فيه بل على مستوى ما طرحه من أفكار تتعلق بالغربة والفقدان والوحدة والخسائر النفسية غير المنظورة. 

تشتبك الحسن من خلال ذلك المعرض مع عالم خفي سيكون عليها من الصعب التعبير عنه مباشرة، غير أنها تتسلل إليه من خلال تفاصيل الحياة العادية. فكرة أن تسافر وأنت في مكانك؛ أن تكون معذبا بفكرة سفرك الذي يقيدك بالمكان. 

من الطائرة وهي لا مكان تستعيد عالمها الأساس كما لو أنها تراه من النافذة. وهو ما يعني أنها تأخذ كل شيء معها؛ أفكارها ومفرداتها وتفاصيل حياتها لتكون قادرة على أن تشبك الفن بالحياة في أية لحظة. ولأنها لم تستهلك ذلك الموضوع فقد خصته بمعرض آخر.  

ذلك المعرض حمل عنوان “نسيج الرماد” وأقامته الفنانة عام 2018. في ذلك المعرض جمعت الفنانة بين الفكرة والمادة في تقنية تبدو تقليدية غير أنها من خلال الفكرة اخترقت زمنها لتكون ابنة كل زمن. لقد صنعت الفنانة من فكرتها طقس حياة. وهو ما جعلها تتمسك أكثر بما تعتبره سلاحها في مقاومة القهر الذي يتعرض له البشر الصغار. 

خطوة بين العذاب والشعر

المسافرة بين مدن الكون
المسافرة بين مدن الكون

ربما علينا استعادة معرضها “مدن الكون” الذي أقامته في عمارة بن مطر بالمحرق عام 2010. لقد بنت الحسن عالمها على أساس مدروس. ذلك المعرض يمكن أن يكون النبوءة التي انطلقت من خلالها الفنانة إلى آفاق سيكون عليها أن تكون مستعدة لها تقنيا. 

كانت هي المسافرة بين مدن الكون. كانت مدن الكون قد شكلت هاجسا أعادها إلى عذاب يومي. ذلك العذاب الوجودي الذي يتعلق بالحشود المسافرة عبر التاريخ. لقد تركت تلك الحشود ثقافة؛ تركت ألما سيكون أثره ماثلا عبر السنين. سيكون على الرسامة أن ترسم خطا لذلك الألم. 

ليس هناك أي نوع من الاقتراب من السياسة فعلا يوميا. غير أن الفنانة وقد ركزت على المفارقة التي تنطوي عليها حياة الناس الصغار لا بد أن تقترب من السياسة من جهة العنف الذي يُمارس في ظل عالم يتصف بالتمييز. صحيح أن ما يُرى يظل متشبثا بتأثيره الجمالي المباشر غير أن الفكرة تذهب أبعد من ذلك التأثير وهي فكرة سياسية.    

لقد نجحت في أن تعمل على مستويين؛ مستوى لا يخطئه الباحث عن الجمال. ذلك لأن ما في رسوم الحسن من جمال لا يمكن أن تخطئه العين الخبيرة. إنها رسامة تبحث عن جمال خاص تمتزج فيه المتعة بالشقاء. ومستوى آخر يعد بأسرار ما يطرحه من أفكار تظل مرتبطة بوقائع يومية قد يرتبط تأثيرها بالشعر غير أن العذاب يظل ماثلا. 

تفتح الحسن أبواب متاهة سيمتزج الضائعون بين دروبها بهوائها الذي هو مزيج من الغضب والحنان. فالرسامة الغاضبة من أجل ناسها الصغار تغمرهم بالحنان في الوقت نفسه. هي معهم في كل الأوقات وفي كل مكان . فائقة الحسن رسامة بفكر معاصر.  

9