"وكالة البلح" في القاهرة.. مول الفقراء الجاذب للوجهاء

رغم دورهم المهم في توفير الكساء للفقراء وفي نفس الوقت تلبية حاجات أصحاب المظاهر يواجه تجار الملابس تحديات عديدة من بينها التجارة الإلكترونية.
السبت 2020/12/12
"بالة" جديدة.. موديلات جديدة

عاد الجدل حول نقل “وكالة البلح” لبيع الملابس المستعملة من مكانها الحالي وسط القاهرة بعد افتتاح متحف للمركبات قريبا منها وارتفاع البنايات الجديدة في الضفة المقابلة لها، حيث أصبح وجودها بصورتها العشوائية محل استنكار ومطالبة بتفريغها من البائعين الجوّالين.

القاهرة- يعرف القادم إلى وسط القاهرة طريقه إلى سوق وكالة البلح للملابس دون توجيه، فمجرد تدقيق النظر في القادمين من حاملي الأكياس البلاستيكية الكبيرة يمنحه خارطة عن المكان، وتدقيق السمع في الصخب والصياح المتشابك يطمئنه بأن خطواته لم تحد عن المكان المقصود.

في وكالة البلح، تفتش عنك الملابس المستعملة قبل أن تبحث عنها، تحاصرك في كل مكان، بمحال متداخلة لا تفصل بينها الحدود التقليدية، ولا تحمل كثير منها أسماء، تشتبك مع المئات من البسطات، وكلها تعرض سلعا متنوعة بدءا من الجوارب والملابس الداخلية، وحتى الأزياء الرسمية.

حارات متقاطعة عرضيا وطوليا لا تعلو فيها كلمة على الملابس، لا تتفاجأ هنا لو وجدت أزياء الستينات بحالة جيدة تجاور موضة العام الماضي، ولا تستغرب إذا وجدت أشهر الماركات العالمية معروضة على الأرصفة، فما يستهلكه الغرب يجد سبيله بطرق مختلفة لزبائن السوق وغالبيتهم من الموظفين ومحدودي الدخل.

الجلاب

تخفيضات دائمة في هذا السوق
تخفيضات دائمة في هذا السوق

يقطع هيامك بتلك المنطقة شباب مهمتهم ترويج البضاعة، يستوقفونك بعبارة “اتفضل خد فكرة واشتري بكره (غدا)”، يصطحبونك لمحال مدفونة تحت الأرض تضم ما يناسب جميع الأعمار، فلا يعتد التجار بالتقسيمات النوعية التقليدية بين رجال ونساء وأطفال، ويعتمدون على اقتناص أي فرصة للبيع، وعدم مغادرة الزبون خالي الوفاض.

يتجول محمود علي، الذي يحمل مؤهلا متوسطا، في الشارع الرئيسي منذ عامين تقريبا، يقوم بدور “الجلّاب” الذي ينتقي زبائن بعينهم، ويعرض عليهم الشراء من محل تجاري يعمل به. تقوم معادلته على اختيار من يتوسم فيهم قدرة شرائية جيدة، تتماشى مع عرضه منتجات لماركات مستوردة.

وعندما تمتلئ السوق بالبشر حتى يسيروا بقوة الدفع، وتتشابك البضائع المعروضة، تتوه الأبصار ويصعب الاختيار، وتكمن هنا أهمية المنادي أو الجلّاب الذي يجذب الأنظار بحركاته وصوته لجذب السائرين، في سوق لا تتضمن اختلافات كبيرة في المعروضات.

لا يتقاضى محمود، الذي غادر مجال السياحة بعد أن ظل فيه قرابة الخمس سنوات بسبب تقلباته المستمرة، راتبا محددا، بل يتوقف دخله على عدد الزبائن الذين يستطيع جذبهم لزيارة المحل وحجم مشترياتهم، ما يجعله دائما تحت ضغط للوفاء باحتياجات أسرته المكونة من أربعة أفراد.

وكثيرا ما يقف فوق كرسي خشبي يمنحه فرصة مشاهدة الزبائن، يقذف قطعا من الملابس في الهواء، يضرب على غلافها البلاستيكي الرقيق، فتصدر صوتا، يغني ويصفق وينادي حتى يظل جاذبا لانتباه من يمرون عليه في أوقات الذروة.

وكالة البلح تلعب حاليا على معادلتين؛ توفير الكساء للفقراء وتلبية حاجات أصحاب المظاهر للتفاخر بارتداء الماركات العالمية

وفي عشرينات القرن الماضي، كانت الوكالة سوقا لبيع التمور، وتبدل بها الحال مع رحيل الاحتلال الإنجليزي عن مصر لينشط تجارها في بيع الخيام وملابس وتجهيزات الجيش الأجنبي القديمة، قبل أن ينقلوا الدفة للملابس الجاهزة المستعملة مع منتصف السبعينات.

لا يحمل وصف المنطقة بأكبر مول للملابس مبالغة، لكنك لن تسمع فيه الموسيقى الهادئة أو تشتم معطرات الجو أو تقابلك البائعات الحسناوات ليساعدنك على الانتقاء، فبعض المحال التجارية تحافظ على اسمها القديم باسم “وكالة الحاج”، ومعه الطابع “الخشن” الذي لم يتغير منذ قرون، فالبائعون كلهم من الرجال.

يقلب أشرف فراج، الشاب الثلاثيني، في البسطات باستمرار بحثا عما يناسب طفليه الصغيرين من ملابس منزلية، يجول الشوارع ذهابا وإيابا دون ضيق، قبل أن يدخل في معركة مستمرة من المفاوضات، لتخفيض أسعارها للمستوى الذي يريده.

يقول أشرف، الذي جاء من محافظة البحيرة على بعد 150 كيلومترا، إنه يزور الوكالة مرتين في العام مع موسمي الصيف والشتاء، هربا من ارتفاع الأسعار المبالغ فيها بالمحال التجارية في مدينته.

حسابات صعبة

تفرج اليوم واشتر غدا
تفرج اليوم واشتر غدا

لا يستطيع الموظف الحكومي الذي يتقاضى ما يعادل 150 دولارا شهريا أن يوفر مخصصات إضافية لكساء أسرته من محال الملابس الجاهزة، حتى في موسم التخفيضات السنوية، وتصبح الوكالة ملجأه لشراء ملابس تبدأ من نصف دولار، وحتى 50 دولارا وفقا لحالتها، وقدرته على التفاوض.

وتحصل المحال التجارية على الملابس المستعملة عبر تجار مدينة بورسعيد الساحلية على البحر المتوسط، الذين يحملون بطاقات خضراء حصلوا عليها خلال السبعينات تسمح لهم باستيراد ما يسمى بـ”البالات”، وهي أكياس بلاستيكية ملفوفة زنة 50 كيلوغراما من شركات أوروبية اشترتها بدورها من منظمات خيرية تجمع الملابس القديمة وتبيعها بسعر رمزي للإنفاق منها على أنشطتها ومساعدة فقراء الدول النامية.

يشتري التجار الملابس المستعملة بالوزن، فالبالة تضم ما بين 200 و300 قطعة من الملابس وتصل للتجار بسعر 640 دولارا، ويعيدون فرزها وبيعها وفقا لحالتها، أما الأصناف القادمة من منطقة الخليج العربي فيتم شراؤها بالواحدة، وترتبط بمنتج العباءات النسائية فقط.

تجار البسطات يعيشون حالة كر وفر مستمرة مع الأجهزة البلدية التي تشن حملات مستمرة عليهم، ينتصرون فيها غالبا

ورغم تأكيد زوار السوق عدم وجود غضاضة في الشراء من الملابس القديمة، لكنهم في الوقت ذاته يرفضون تصويرهم أثناء عملية الشراء أو حتى داخل المنطقة، في ازدواجية تظهر الصورة الذهنية التي يرفضون التصاقها بهم ووصمهم بالعجز المالي.

وفي السوق، تسود لغة مختلفة للدلالة على الملابس، فكلمة “دوبل كريمة” (بكسر الكاف) تعني الملابس الراكدة من إنتاج المصانع العالمية والتي لم يتم استعمالها، لكن تجاوزتها الموضة، أما “الكريمة” فتتضمن بضائع بها عيوب خياطة طفيفة، و”نمرة واحد” تضم شريحة الملابس المستعملة غير المستهلكة، و”نمرة اثنين” تضم باقي أصناف الملابس ولا يتم فرزها.

ويرفض أصحاب المحال التجارية إقران سوقهم بالزبون الفقير، فيؤكدون أن لديهم جمهورا من جميع الطبقات، وبعض الأغنياء يأتون بسيارات فاخرة لشراء منتجات أجنبية غير موجودة في المحال التجارية أو تبيعها بمبالغ باهظة الثمن، فبقيمة قطعة واحدة يمكنهم شراء أربعة أنواع بدرجة فرز ممتازة.

الملابس لا تشي بمصدرها ولا تُعرف بعمرها
الملابس لا تشي بمصدرها ولا تُعرف بعمرها

ويشير البائعون إلى أن فنانة مصرية ظهرت في ختام مهرجان القاهرة السينمائي قبل عامين بفستان اشترته من المنطقة بنحو 120 دولارا، وفضلته على دور الأزياء المحلية التي يتعامل معها الأثرياء، وهو نفس الأمر الذي يتكرر مع كثير من الممثلات في بداية حياتهن الفنية.

يأتي الميسورون متنكرين في الغالب بنظارات سوداء تحاشيا لمعرفتهم من قبل أقارب لهم أو أصدقائهم، وغالبا ما يفضلون الشراء من الحواري الداخلية والابتعاد عن الطريق الرئيسي، في ظل الصورة النمطية المرتبطة بالسوق كمكان للبسطاء.

ويمكن اكتشاف تلك النوعية من الجمهور بالقلق الذي ينتاب حركاتهم وطريقتهم في الشراء فينظرون للطريق الرئيسية قبل الدخول للمحال التجارية، ويختارون الأوقات التي لا تشهد زحاما في الصباح الباكر أو أيام الإجازات، ولا يقضون وقتا طويلا في التجوال، وغالبا ما يحسمون قرارهم الشرائي من أول أو ثاني محل يدخلونه.

ويعيش العاملون بالمحال التجارية في الوكالة قدرا من القلق، كلما ينظرون إلى حمى البناء المتواصلة بمنطقة “مثلث ماسبيرو” المواجهة لهم والتي كانت جزءا من سوقهم قبل شهور قليلة، فمشروعات السياحة والإسكان الفاخر التي تشهدها المنطقة قد تزج بهم خارجها، ليصبحوا في مفترق طرق.

عندما تمتلئ السوق بالبشر حتى يسيروا بقوة الدفع، وتتشابك البضائع المعروضة، تتوه الأبصار ويصعب الاختيار، وتكمن هنا أهمية المنادي أو الجلّاب

ومنذ هدم مثلث “ماسبيرو” ونقل سكانها، ارتفع إيجار المحال التجارية ليصل بعضها لقرابة الألف دولار شهريا، ما دفع التجار إلى رفع أسعار بيعهم لتعويض الخسائر، بينما يفكر البعض في تغيير نشاطه من أجل الاستفادة من إعادة افتتاح متحف للمركبات الملكية قبل أسابيع والذي سيجعل حركة السياحة تطوف بين رحاب منطقتهم.

وتتزايد الشكاوى باستمرار من تحركات الباعة بالشوارع وتعطيل حركة المرور في منطقة مزدحمة من الأساس بوجود اثنين من أكبر المؤسسات الصحافية الحكومية على مقربة منها (الأهرام وأخبار اليوم)، ومستشفى للولادة، ومقر رئيسي لشركة الكهرباء بالقاهرة، وموقف عشوائي لغالبية أحياء محافظة الجيزة، وتلتصق بوزارة الخارجية المصرية من الخلف وبالقنصلية الإيطالية من الأمام.

تحديات جديدة

الوكالة ملاذ الفقراء لشراء ملابس تبدأ من نصف دولار
الوكالة ملاذ الفقراء لشراء ملابس تبدأ من نصف دولار

يعيش البائعون حالة كر وفر مستمرة مع الأجهزة المحلية التي تشن حملات مستمرة عليهم، ينتصرون فيها غالبا، فبمجرد سماع دوي صافرات عربات شركة البلدية، يختفون مع بضائعهم كالأشباح، وينزوون في منازل قديمة أو داخل أدوار سفلية، تقطع الأرجل العشرات من الخطوات للوصول إلى قاعها.

ولا يحملون مؤهلات في التسويق والكثير منهم من ذوي التعليم المنخفض، لكنهم يجيدون اللعب على رغبات الزبون، ينقسمون إلى أصناف؛ فمنهم الودود الذي يحول علاقته بالزبون إلى صداقة في دقائق، فيتبادل معه النكات أو يجره للكلام حول الشأن العام، ومنهم من يتسم بالمرونة فيجر الزبون لاختيارات أخرى غير التي كان يسعى لها، بل ويقنعه بالشراء.

ومنذ ظهور وباء كورونا، تتزايد موجات القصف الموجهة لمنطقة الوكالة التي لا تعرف شيئا عن الإجراءات الاحترازية ولا تلتفت إلى التباعد الاجتماعي، وامتد الأمر للمطالبة بمنع بضائعها من دخول البلاد من الأساس، فشحنات الملابس المستعملة القادمة من الخارج قد تحمل معها أصنافا من الفايروسات.

لكن أصحاب المحال التجارية لهم رأي مغاير، بمجرد أن تسألهم عن الاشتراطات الصحية، ينطلقون في حديث مطول، يضم المراحل التي تمر بها بضاعتهم والاشتراطات الصحية التي تخضع لها، والتي يقولون إنها أعقد من المنتجات المحلية أو الجديدة المستوردة.

يعيش العاملون بالمحال التجارية في الوكالة قدرا من القلق، كلما ينظرون إلى حمى البناء المتواصلة بمنطقة “مثلث ماسبيرو” المواجهة لهم والتي كانت جزءا من سوقهم

تأتي الملابس بشهادات صحية موثقة من البلد الأصلي وختم السفارة المصرية بها، وتمضي في فترة الشحن أسبوعين قبل أن تتعرض لحظر احترازي لمدة شهر كامل، ليعاد عرضها على الحجر الصحي وتعقيمها بدرجة حرارة تصل إلى 90 درجة، ما يجعلها لا تصل إلى يد الجمهور قبل 50 يوما من مغادرتها بلدها الأصلي.

وعرفت منطقة الوكالة كيف تتجاوز العقبات دائما بسبب “الانتهازية الربحية” لتجارها، فمع ارتفاع الدولار أدخلوا بضائع محلية من المخزون الراكد للمصانع المحلية الذي يتضمن عيوبا في الصناعة، وأعادوا بيعها بجانب بضائعهم التقليدية، لكنها تتسم بتناقص عمرها الافتراضي وتمزق خيوطها بشكل يستحيل معه الإصلاح.

وتواجه سوق وكالة البلح إشكالية في تنامي البيع الإلكتروني للملابس المستعملة أيضا التي تأتي أرخص، على اعتبار أن القطعة لن يتم تحميلها قيمة إيجار المحل التجاري والعمالة والضرائب وغيرها، كما أنها تحمي خصوصية بعض الزبائن الذين يستحون من التوجه للشراء من وكالة البلح.

ووفقا لإحصائيات رسمية، يدخل مصر في المتوسط قرابة 5 ملايين طن من الملابس الجاهزة المستعملة بطريقة رسمية، لكن توجد كميات أكبر يتم تهريبها، وتقدر شعبة الملابس باتحاد الغرف التجارية، في دراسة لها، حجم تلك النوعية من الملابس بنحو 60 في المئة من حجم السوق المحلية.

ووفقا لسارة محمود (ربة منزل) التي قد تمضي في السوق أربع ساعات تقلب فيها الكثير من القطع حتى تعثر على ما تريد، فإن للشراء في الوكالة قواعد يعرفها الجمهور.

استكشاف المكان
استكشاف المكان

وتقول سارة لـ”العرب”، إن الاثنين والجمعة هما الأفضل، ففيهما يعرض التجار المنتج الجديد ويقدمون خصومات على الأسعار، أما الأحد فأفضل لمن يريد استكشاف المكان فالحركة أقل لأن بعض المحال التجارية خلاله تغلق أبوابها.

وتعرف سارة كيف تكتشف حالة المنتج فلا يهمّها مظهره، فهي تمسك النسيج وتشده بين يديها للتأكد من متانته وترفعه في ضوء الشمس لمعرفة دقة النسج وعدم وجود عيوب، قبل أن تدفع المقابل المالي، فلا مجال لاسترجاع البضاعة التي تشتريها بعد أن يتسلم البائع المال، وما تحصل عليه قد يتسنى استبداله فقط.

ويمثل اللاجئون الأفارقة زبائن مستمرين للسوق، فظروفهم المالية لا تختلف عن المصريين، وتمثل السوق أيضا مقصدا لعمال العقارات الذين يأتون لشراء ملابس قديمة تتحمل المجهود الشاق الذي يبذلونه وتقي بعضهم الطقس البارد في المناطق المكشوفة.

ويفضل البائعون الزبائن الذين يتعاملون أحيانا بالدولار وليس الجنيه، ويشترون كميات كبيرة، بسبب معرفتهم الجيدة بالماركات العالمية وأسعارها الحقيقية، وعدم دخولهم في فاصل من المفاصلة في تقليل الثمن.

وتلعب وكالة البلح حاليا على معادلتين؛ أولهما توفير الكساء للفقراء الذين لا يملكون مالا لشراء الجديد، وتلبية حاجات أصحاب المظاهر للتفاخر بارتداء الماركات العالمية حتى لو كانت قديمة، فالملابس لا تشي بمصدرها ولا تُعرف بعمرها.

17