هنري تيسي كاثوليكي سَبَر أغوار التطرف الإسلامي قبل المسلمين

هاجس تيسي، منذ تعيينه أسقفا لوهران، كان تغيير نظرة الجزائريين إلى الكنيسة، منتقلا بها من قلعة صليبية استعمارية موجهة نحو اجتثاث الهوية الإسلامية، إلى مؤسسة قابلة للتعايش وعنوان للتسامح والتضامن وتقاسم همّ الكفاح والبناء.
الثلاثاء 2020/12/08
هنري تيسي واحد من أبرز رموز التسامح والحوار بين الأديان

فقدت الجزائر برحيل القس هنري تيسي واحداً من أبرز رموز التسامح والحوار بين الأديان، ظل طيلة حياته، ومنذ أن ترأس أسقفية الكنيسة الكاثوليكية في منتصف تسعينات القرن الماضي، يدعو إلى التعايش الخلاق بين الشعوب والحضارات. بقي متمسكا ببلاده الجزائر التي أحبّها واختار العيش والموت فيها رغم جذوره الفرنسية، رافضا دعوات الرحيل، بعد حادثة الرهبان السبعة خلال العشرية الدموية، وظل فاعلا مؤثرا في المشهد الديني ومقرّبا من رموز وعلماء الإسلام المعتدلين في الجزائر إلى أن وافته المنية.

طريق الحوار

الإرهابيون، كما يقول تيسي، يستعملون الجريمة للضغط على المجتمع من أجل إخضاعه، ولذلك لم يكن يقبل أي عذر أو مبرر للاغتيالات باسم الدين.
الإرهابيون، كما يقول تيسي، يستعملون الجريمة للضغط على المجتمع من أجل إخضاعه، ولذلك لم يكن يقبل أي عذر أو مبرر للاغتيالات باسم الدين

كشف رحيله أن طريق الحوار والتعايش بين الأديان الذي وضع معالمه منذ عقود كاملة، لا يزال طويلا في ظلّ تغلغل غريب لخطاب التطرف والعصبية الدينية، ففيما كثفت الكنيسة الإنجيلية ضغوطها على السلط المختصة تحت ذرائع التضييق على الممارسة الدينية، شن إسلاميون متطرفون حملات شعواء ضد المتأثرين برحيله. وقد تعرّض الكاتب والإعلامي سليمان بخليلي، إلى هجومات شرسة بسبب المنشور الذي ضمنه تأثره برحيل تيسي، وتقدمه كمسلم إلى خالق الناس جميعا بالتضرع ليحيط الرجل “بالرحمة والمغفرة”، وتضمنت الحملة طرحا متطرفا غريبا وفهما مشوها للنص القرآني في التعامل مع غير المسلمين.

الإسلام والمسيحية يتقاطعان في العديد من الجوانب، وفقا لرؤية تيسي، والدليل على ذلك هو الآيات التي يشترك فيها الكتابان المقدسان، القرآن والإنجيل، حيث إن هناك آيات تدعو إلى التسامح والتصالح مع الآخر وعدم الإكراه والتآلف.

ومع ذلك فإن رصيده كبير في تكريس الحوار والتعايش بين الأديان، والوفاء للبلاد في أخطر الفترات التي مرت بها، حيث فضّل البقاء رغم رائحة الموت وحمّام الدم، واستهداف الجماعات الإرهابية لغير المسلمين في إطار “الجهاد ضد الكفار”، وظل قريبا من رموز الدين الإسلامي في الجزائر، ولا يتأخر في مشاركتهم ندوات الحوار والتعايش الديني.

ظلّ تيسي يعتقد حتى وهو في ذروة العشرية الدموية، بأن الجزائر ستلعب في المستقبل دورا محوريا في التجديد الفكري الديني للإسلام، فرغم معاناة شعبها من العنف، فإن المسلمين فيها يفكرون بآفاق إنساني وأنها مستقبلا ستلعب دورا في التجديد الديني والروحي للإسلام وفي الحوار مع الأديان الأخرى، حسبما يقول الإعلامي المقيم في باريس محمد زاوي.

استمر في تمسكّه بمقاربته العقلانية حتى حين كانت الجزائر في ذروة الموت والدم، وعاش أخبار العنف الدموي والرعب الكبير كغيره من الجزائريين، وكان يرى أن أسباب العنف تعود إلى تراكمات هوياتية وثيولوجية، فالجزائر عرفت تحولات اجتماعية بعد الاستقلال، وبعض الجزائريين تخوفوا من ضياع أرواحهم، ومن رؤية أبنائهم يهملون هويتهم العميقة.

أما فشل النمط الماركسي وإفلاس الرأسمالية فقد شجّعا، كما يرى تيسي، على عودة الطرح الهوياتي العربي الإسلامي كخط جزائري ثالث، ومن هذا المنطلق كان الجزائريون ينادون بالعودة إلى “القيم الأصيلة”، وكان هدفهم هو تعبئة الناس حول برنامجهم السياسي، وليس البحث بمختلف الطرق عن حياة دينية تكون في مستوى تحديات الحداثة، لكن الوصول إلى حدود تحديات العصرنة وتحقيق هذا الهدف توجّب أن يكون موضوع تشاور بين الجزائريين والمسلمين في الشرق الأوسط وفي آسيا وأفريقيا ومعهم المهاجرين أيضاً، لأنها مشكلة معقدة تشترك فيها جميع المجتمعات الإسلامية وتتطلب مساهمة أتباع الديانات الأخرى.

لا رؤية لدى المتطرفين

رصيد تيسي كبير في تكريس الحوار والتعايش بين الأديان، والوفاء للبلاد في أخطر الفترات التي مرت بها، حيث فضّل البقاء رغم رائحة الموت وحمّام الدم

رفض تيسي أن يكون إسلاميو جبهة الإنقاذ آنذاك يحملون رؤية جديدة للجزائر، وظل يشدد على أنه من الضروري أن تمرّ المجتمعات العربية بمرحلة سلطة للإسلاميين، وأن إيمانه بحرية الأفراد والمجتمعات يقوده إلى الجزم بعدم وجود حتميات تاريخية، وأنه باستطاعة المجتمعات خلق حلول مختلفة لمشكلاتها، لأن الغلق عليها في نمط واحد هو إلغاء لحرية الإنسان.

وكان يستنكر أن تقدّم بلاده “في ثوب البلد الفاشل ذي المشكلات المزمنة”، لقناعة راسخة لديه بأنه يجب على الجزائريين أن يقبلوا اليوم بالتنوع اللساني والثقافي، وأن “الأمازيغية أصبحت من ثوابت الأمة الجزائرية”، في إشارة إلى التحولات الفكرية والأيديولوجية داخل المجتمع، رغم الانطباع السائد بتغلغل أنماط التفكير المتعصب.

مواقف الرجل من الخطاب الرسمي في فرنسا خلال تسعينات القرن الماضي، جعلته يفضل الابتعاد عن الأضواء، وبصعوبة كبيرة وجدت مجلات فرنسية مثل “إيسبري” التي نشرت مقابلة أجراها معه زاوي رغم ما جاء فيها من مواقف وأفكار تجاه حوار الأديان والتعايش بين الشعوب، ونقد مبطن للحكومة الفرنسية على تحريضها كاثوليكيي الجزائر على مغادرتها بدعوى غياب الأمن وتغول الإرهاب.

وكان يرى بأن “خطورة أزمة المجتمع في الجزائر تجعل المسلمين والكاثوليكيين يطرحون أسئلة حول العنف، وحول المجتمع، والديمقراطية، وعن علاقة الدولة بالدين، واحترام الأخ، وخاصة احترام حق الإنسان في الحياة، واحترام حقوق المرأة وكرامتها، وحول الإله الذي يقتل باسمه البعض”، وهي المعضلة التي لا زالت قائمة في مختلف تجلياتها الدينية والسياسية والفكرية لغاية الآن.

 مأساة وتضحيات كاثوليكيي الجزائر خلال العشرية الدموية، أودت كما يقول تيسي بإخوة وأخوات من الكنيسة الكاثوليكية، وقد كان هو شاهدا على إحدى عشرة عملية إرهابية، ومع ذلك يبقى الوفاء للبلاد وللجزائريين لقناعة مفادها أن العنف الديني هو موجة ظلامية لا يمكن الهروب من أمامها، فقد تم ذبح سبعة منهم في مجزرة تيمزقيدة جنوبي العاصمة العام 1993، وكان هؤلاء في ورشة عمل، وينتظرون الالتحاق بعائلاتهم لمشاركتهم احتفالات أعياد الميلاد.

يقول تيسي “كان أغلبنا أجانب أو من دول أجنبية، مما يجعلنا نسقط تحت تهديدات الموت منذ شهر أكتوبر 1993 وبيان الجماعة الإسلامية المسلحة، الذي هدد كل الأجانب بالتصفية وأمرهم بالمغادرة، وكنا نعيش تلك الاغتيالات بطائل من الحزن، ولكن ذلك لم يبعدنا عن الوفاء للشعب الجزائري في تلك الظروف الصعبة”.

الأهداف التي كانت تجعل الإرهابيين يغتالون الصحافيين والمثقفين، هي نفسها التي تجعلهم يغتالون المسيحيين الذين تركوا بلدانهم الأصلية ليكونوا بقرب إخوتهم من الجزائريين والجزائريات، هذه كانت رؤية تيسي، لأن المسيح يدعو هؤلاء إلى أن يكونوا قريبين من الناس، حتى ولو اختلفت دياناتهم عنهم، ويظهروا في الواقع تضامنهم حتى وإن كانت تحيط بمهنتهم أخطار بسبب العنف.

يستعمل الإرهابيون الجريمة للضغط على المجتمع من أجل إخضاعه لما يرفضه منهم، وعلى ذلك لم يكن تيسي يقبل أي عذر أو مبرر ديني للاغتيالات، مستندا في ذلك إلى قرآن المسلمين الذي كان يترجمه من أجل محاججة المتعصبين قبل أتباع الديانات الأخرى.

ولأن الرجل الذي غادر عن عمر 91 عاما، كان يحظى باحترام كبير لدى الجزائريين، رغم حملات المنتوج الإسلامي المتطرف، فقد كان رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد، أول المعزين، حيث قال “يفارق هذه الحياة رئيس أساقفة الجزائر السابق هنري تيسي، الذي ارتبط بالجزائر الوطن، وأحب الجزائريين الذين عاش معهم طيلة حياته”.

 وأضاف جراد “نعرف عنه شغفه بتاريخ الجزائر، وكان مكتشف مذكرات الأمير عبدالقادر، وظل مدافعا عن قيم التسامح والتعايش وحوار الأديان”، وهو ما يعكس حجم انصهار تيسي المولود في مدينة ليون الفرنسية، مع الواقع الجزائري بتاريخه ورصيده وتحولاته، منذ أن تم تعيينه راعيا للأبرشية الجزائرية العام 1955 ثم أسقف وهران من طرف البابا بولس السادس مطلع السبعينات قبل أن يصبح أسقف الجزائر حتى العام 1996.

الحوار والسلام والتعايش بقيت هموما تشغل بال تيسي، وهو الذي ذكر في ندوة “سلم وتسامح” التي خصصت للديانات السماوية، أن “مصطلح سلام يشكل أحد أسس المسيحية، وأن الإسلام والمسيحية واليهودية وبالرغم من كونها ثلاث ديانات مختلفة، فهي لديها مصدر وهدف مشترك وهو السعادة والإنسانية”.

وفي ندوة أخرى نظّمت في زاوية الهامل الصوفية بمدينة بوسعادة، قال تيسي إن “تناقص الكهنة والقداس في الجزائر وغيرها من دول العالم، يعود إلى عدم انضمام الشباب المسيحي في أوروبا إلى الكنيسة، وهو ما حال دون توظيفهم، وأن الظروف الأمنية التي تعيشها أوروبا جعلتها منغلقة على نفسها”.

عربون المحبة للأمير عبدالقادر

مواقفه من الخطاب الرسمي في فرنسا جعلته يفضل الابتعاد عن الأضواء، وبصعوبة كبيرة نشرت مطبوعات فرنسية شحيحة حوارات أجرتها معه، رغم ما جاء فيها من نقد مبطن للحكومة الفرنسية لتحريضها كاثوليكيي الجزائر على مغادرتها.
مواقفه من الخطاب الرسمي في فرنسا جعلته يفضل الابتعاد عن الأضواء، وبصعوبة كبيرة نشرت مطبوعات فرنسية شحيحة حوارات أجرتها معه، رغم ما جاء فيها من نقد مبطن للحكومة الفرنسية لتحريضها كاثوليكيي الجزائر على مغادرتها

يتقاطع الإسلام والمسيحية في العديد من الجوانب، وفقا لرؤية تيسي، والدليل هو الآيات التي يشترك فيها الكتابان المقدسان، القرآن والإنجيل، حيث أن هناك آيات تدعو إلى التسامح والتصالح مع الآخر وعدم الإكراه والتآلف وغيرها، وأن ما يحدث في العالم من حروب ونزاعات هو تقصير من الجميع.

فشل النمط الماركسي وإفلاس الرأسمالية، حسبما يرى تيسي، شجّعا على عودة الطرح الهوياتي العربي الإسلامي كخط جزائري ثالث، ومن هذا المنطلق كان الجزائريون ينادون بالعودة إلى {القيم الأصيلة}، وكان هدفهم هو تعبئة الناس حول برنامجهم السياسي

ويرى متابعون لمسيرة رائد الحوار والتعايش بين الأديان والشعوب في الجزائر، بأن تيسي، الذي ظهر على مسرح الأحداث في مرحلة صراع مرير بين فرنسا الاستعمارية التي استغلت كل مقوماتها بما فيها الكنيسة لترسيخ وجودها وهيمنتها من جهة، وبين الجزائريين من جهة ثانية، شق طريقا جديدة مبنية على تطويع الآخر لفلسفته في بناء العلاقة بين الجزائريين والكنيسة. ويقول هؤلاء إن القطيعة الأولى التي أنجزها، وهو يشرف على ممارسة الشعائر المسيحية في الجزائر، هي التمرّد على ما رسمته الإدارة الاستعمارية، ونزوعه إلى فصل الكنيسة عن السياسة تماما، كما توصي به مواثيق الجمهورية الفرنسية، فقد عرف كيف يرسم الحدود بين ولائه لفرنسا كوطن وبين ولائه للفاتيكان كمركز للقيادة الروحية للعالم المسيحي، وكان موقفه واضحا من النظام الاستعماري مؤيدا لحق الجزائريين في تقرير مصيرهم ونيل استقلالهم.

عمل منذ تعيينه أسقفا في مدينة وهران على تغيير نظرة الجزائريين إلى الكنيسة، منتقلا بها من قلعة صليبية استعمارية موجهة نحو اجتثاث الهوية الإسلامية، إلى مؤسسة قابلة للتعايش وعنوان للتسامح والتضامن وتقاسم همّ الكفاح والبناء، فضلا عن تعزيز روابط الأخوة وجعل مصير المسيحيين في الجزائر غير منفصل عن مصير الجزائر والجزائريين بشكل عام.

وحرص على تمتين الصداقة مع شخصيات فكرية ودينية جزائرية، على غرار الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين عبدالرحمن شيبان، ووزير الثقافة والمفكر عبدالمجيد مزيان، الذي تعاون معه على اكتشاف سيرة الأمير عبدالقادر، التي كتبها بنفسه في سجنه بفرنسا. كما ساهم بمؤلفات تاريخية وفكرية ودينية، إلى جانب عضويته في مؤسسة الأمير عبدالقادر، بجوار شخصيات مرموقة، على غرار إدريس الجزائري، وبوعمران الشيخ، ومحمد لمين وزهور بوطالب، وهو ما كان يعتبره عربون محبة للأمير عبدالقادر، الذي كان له دور حاسم وبارز في إنقاذ المسيحيين من المجازر الطائفية في دمشق في القرن التاسع عشر والتي عرفت بـ”طوشة النصارى”، وفي الوقت ذاته إنقاذهم من التهجير الذي أرادت فرنسا وبريطانيا فرضه عليهم بتهريبهم وتوطينهم في أريافهما، وهو ما رفضه الأمير حينها رفضا قاطعا مهدّدا بتمزيق اتفاقية السلام التي وقعها مع فرنسا في بلاده الجزائر.

13