عدوى السجال المحتدم بين التنوير والتراث تمتد إلى الجزائر

هبّت عاصفة من الجدل والخلافات داخل النخبة الفكرية والدينية في الجزائر تقاطعت فيها الآراء بين التنويريين الداعين إلى اعتماد سلطة العقل في مقاربة المعطيات المختلفة مهما كانت مقدّسة ومواجهة الخطابات الإسلامية التقليدية، فيما ينزع المتشبثون بالتراث إلى التمسك بمصادرهم التاريخية ومعاملتها بطريقة تقترب من القداسة. ودخلت الأحكام القضائية التي طالت ناشطين سياسيين معارضين ممن اتهموا بالازدراء الدين والمساس به، على خط الجدل القائم حول حرية التفكير والمعتقد وحتى الاجتهاد في فهم النص الديني.
الجزائر - امتدت عاصفة الجدل المتصاعد بين التنويريين والتراثيين إلى بعض الفضاءات الافتراضية في الجزائر، ما يعطي انطباعا بتراجع نفوذ التيارات الإسلامية التقليدية أمام التوسع التدريجي لتيار حداثي يريد تقديم مقاربة جديدة في فهم الدين. ورغم المقاومة الشديدة التي يتلقاها هؤلاء إلا أن تفكير ناشطين محليين في تنظيم ندوة دولية لفكر الباحث السوري الراحل محمد شحرور، بعد تراجع الجائحة الصحية، توحي بأن المبادرة ماضية بطريقة جدية في التأسيس لخط ديني موازي.
ووفق قراءات نقدية للفكر الإسلامي فإن شحرور “أنقذ أجيالا من التعصب والأفكار الرجعية بتقديمه قراءات معاصرة للنصوص الدينية ترتكز على إعمال العقل والنقد”، فيما يبدي البعض تحفظه على المناهج العلمية التي اتبعها المفكر السوري في قراءة النص الديني.وذهب المعترضون على فكر شحرور إلى حد اتهامه بالزندقة وطالبوا بحظر كتاباته لأنها تشكل “مساسا بثوابت الدين”، حسب رأيهم. ويقولون إن أطروحاته تتلخص في محاولة تطويع النصوص لتوائم مبادئ الفكر الماركسي.
وتدعّم التيار الحداثي في قراءة النصوص المقدسة للدين الإسلامي بمؤلف جديد للباحث في علم الاجتماع الهواري عدي الذي تناول أزمة الخطاب الديني الإسلامي، وعدم توافق الموروث المتداول مع متطلبات العصر، الأمر الذي يدعم أفكار تيار ديني حداثي يمثل امتدادا لما هو جار في العالمين العربي والإسلامي، والتي بدأت تتجسد في بعض الفضاءات الافتراضية والحقيقية.
ومثلت جمعية “التنوير” للباحث في الشؤون الإسلامية سعيد جاب الخير، الحصى الأولى التي حركت المياه الراكدة قبله، رغم المقاومة الشديدة التي أبدتها مختلف التيارات الدينية التقليدية المتشبثة بموروث متراكم من النصوص الدينية، ولا تبدي أيّ نية في مراجعة خطابها وموروثها المتباعد عن العصر الذي تعيشه.
وجاء كتاب الباحث في علم الاجتماع هواري عدي حول “أزمة الخطاب الديني الإسلامي” ليعزّز صفوف ناشطي التيار الحداثي الباحثين عن اجتهادات محلية تبعد عنهم شبهة الولاء لتيارات مستوردة أو جهات خارجية، خاصة وأن تهم التكفير والزندقة صارت تلاحقهم في دوائر التيارات التقليدية.
وكانت استضافة الباحث منصور الكيالي، من طرف إحدى المؤسسات الإعلامية المحلية في وقت سابق، قد أثارت موجة من الانتقادات اللاذعة وجّهها رموز تيارات دينية تقليدية، وعلى رأسهم منتسبو المذهب السلفي، والذين لم يتوانوا في وصف الندوة المنتظمة آنذاك بـ”الفجور والزندقة “، والعمل على “تشويه العلماء والتابعين وشيوخ الإسلام”.
واعتبر هواري عدي، صاحب مؤلفات سابقة حول “القومية العربية” و”الإسلام السياسي”، بأن “الأزمة التي نتحدث عنها ليست أزمة الإسلام، بل أزمة الثقافة التي تحرك الأزمة اليوم، وأن التعصب الذي يتسم به مجتمعنا ينبع من ثقافتنا وليس من القرآن”.
وقال “لقد كانت هناك إمكانات هائلة للحداثة الفكرية، إلا أن القمع السياسي والتغريب الديني خنق هذا التطور، واستشهد على ذلك في مؤلفه بتجربة أبي حامد الغزالي، في تلميح منه إلى مناخ خانق يسود العالم العربي والإسلامي يشبه كثيرا المناخ الذي كان سائدا في العصور السابقة، واشتراك المرحلتين في المقاومة الشديدة لاستخدام العقل في فهم الدين الإسلامي وعلاقته بالنص الديني.
ودخلت الأحكام القضائية التي طالت ناشطيْن سياسييْن معارضين، واللذين سلطت عليهما تهم ازدراء الدين والمساس به، على خط الجدل القائم حول حرية التفكير والمعتقد وحتى الاجتهاد في فهم النص الديني، وحتى موقع غير المسلمين المفترضين وسط المجتمع الجزائري.
وبين تلويح هؤلاء بتوظيف السلط القضائية للدين في تصفية حسابات سياسية، كما يعج به الموروث التاريخي خلال العصور السابقة، يرى من يصفون أنفسهم بـ”التنويريين ” أن “المسألة تنطوي على فهم تقليدي موروث للنص الديني وتطبيق نمطي للأحكام المعروفة، بينما العقل الحديث باستطاعته تقديم قراءة جديدة للنص الديني”.
وشكّل دخول قطاع من المحامين على خط طرفي المعادلة، أحد أوجه الانحياز الفكري والأيديولوجي للمدرستين، حيث انخرط البعض من المحسوبين على التيار الإسلامي والمحافظ للتأسيس كطرف مدني في قضية ما وصفوه بـ”تطاول وإساءة الناشطة السياسية المعارضة أميرة بوراوي، على الرمز الأول للمسلمين، واستفزاز مشاعر غالبية الجزائريين المتشبثين بثوابتهم الدينية والحضارية “.
في حين اعتبر من تطوع للدفاع عن الناشطين أميرة بوراوي وياسين مباركي، المعارض للمنظومة الدينية والسياسية القائمة، أن “المحاكمة لم تكن عادلة لأن القاضي كان منحازا لأيديولوجية معينة”، في إشارة لخضوع القضاء لما يصفونه، بـ”المنظومة السياسية المستندة إلى مرجعية دينية فصلت على مقاس المؤسسات الحاكمة، ولم تترك مجالا لمن يعارضها”.
وذكر المحامي هاشم ساسي أن “أحد عناصر القضية هو منشورات وتسجيلات فيسبوكية، اعتبرتها المحكمة مساسا بالمعلوم من الدين، رغم أنها عبّرت عن وجهة نظر متداولة كثيرا في الشارع الإسلامي، على غرار سن السيدة عائشة لمّا تزوجها رسول المسلمين، وسبي النساء، وأخرى تتعلق بالمفكر البعثي ميشال عفلق”.
وقال إن “قراءة موكله للنص الديني هي التي حالت دون تشكيل خلايا أو إرسال عناصر متطرفة للقتال في سوريا ضمن تنظيم داعش، وفق الفهم التقليدي المتوارث للنص الديني، الذي رسم صورة سوداء عن الإسلام والمسلمين في العالم”.
وشدد فريق الدفاع على أن “العقوبة الثقيلة، المسلطة على الناشطين تحمل دلالات سياسية وأيديولوجية، لأنها تنطوي على توظيف الدين الإسلامي في تصفية الحسابات بين المؤسسات الرسمية، وبين المعارضين للمنظمة السياسية التي تستنجد في كل مرة بأحكام دينية جاهزة للانقضاض على من يفكر أو يؤمن بغير ما تؤمن به”.
ووفق هذا المنحى ذهب الباحث هواري عدي إلى اعتبار أن “العقيدة الإسلامية المعاصرة لا تزال عقيدة ابن حنبل والغزالي وابن تيمية”، في إشارة إلى جمود العقل الإسلامي في منتوج العصور السابقة، وعدم استعداده لقبول أيّ قراءة حديثة باتت أكثر من ضرورية لإخراج العالم الإسلامي من المأزق المعاصر.