أزمة الرواتب توقد شرارة موجة غضب شعبي جديدة في العراق

عدم دفع رواتب الموظفين في العراق يعني المساس بأرزاق الملايين من العائلات المرتهنة لعمل أحد أفرادها في القطاع العمومي، ويمثّل أقصر طريق لإثارة نقمة الشارع المتحفّز أصلا للاحتجاج والتظاهر، على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وهو ما يعيه خصومه السياسيون ويعملون على الدفع باتّجاهه بمنع حل الأزمة من جهة وبالتحريض ضد الحكومة من جهة ثانية.
بغداد - تسلّط أزمة رواتب موظفي القطاع العام في العراق ضغوطا شديدة على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وتضعها في مرمى الغضب الشعبي بسبب العدد المهول من العائلات المرتهنة في أرزاقها لعمل أحد أفرادها في ذلك القطاع المتضخّم، بينما يجد خصوم الكاظمي من قادة أحزاب وميليشيات شيعية موالية لإيران في تلك الأزمة، فرصة مثالية للضغط عليه ووضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع وإسقاط الصورة التي حاول أن ينحتها لنفسه كمتعاطف مع المحتجّين ومتفهّم لمطالبهم وكحام لهم من عنف الميليشيات وقوات الأمن التي استهدفتهم خلال انتفاضتهم المتواصلة منذ أكثر من عام.
وطالب تحالف الفتح، الممثّل السياسي لميليشيات الحشد الشعبي بقيادة هادي العامري زعيم ميليشيا بدر، حكومة بغداد بتقديم “حلول واقعية لتأمين الرواتب وعدم الاعتماد على أوراق فارغة لا تقدّم أي حلول عملية”.
وبسبب التراجع الشديد في أسعار النفط الذي يكاد يمثّل المورد الوحيد لخزينة الدولة العراقية، وجدت حكومة بغداد نفسها عاجزة عن تأمين رواتب قرابة سبعة ملايين موظف مدني وعسكري ومتقاعد، بينما أحبطت كتل برلمانية محاولتها اللجوء إلى الاقتراض الداخلي لتسديد الرواتب.
وقال نواب في البرلمان العراقي إن عجز الموازنة يزيد عن ملياري دولار شهريا، وقال آخرون إن الحكومة تحصل من عائدات النفط على نحو نصف ما تحتاجه لدفع رواتب الموظفين.
وتجعل هذه الأزمة حكومة مصطفى الكاظمي أمام أكبر عقبة، وهي التي جاءت على أنقاض حكومة عادل عبدالمهدي لتؤمّن مرحلة انتقالية وتنفّذ بعض الإصلاحات وتبرّد سخونة الشارع بالاستجابة لبعض مطالبه، لاسيما المطالب الاجتماعية التي تأتي في المقام الأول بالنسبة إلى شرائح واسعة من العراقيين الذين ارتفعت نسب الفقر والبطالة في صفوفهم.
ويمثّل إفشال الكاظمي هدفا حيويا للأحزاب الشيعية المشاركة في الحكم والميليشيات المرتبطة بها خوفا على مصالحها المادية والسياسية، كون الرجل غير محسوب ضمن معسكر الموالاة لإيران ومتهما بالانحياز إلى الولايات المتحدة ويرفع ضمن شعاراته استعادة هيبة الدولة وضبط فوضى السلاح، الذي يعني بالنتيجة نزع سلاح تلك الميليشيات.
وقال تحالف الفتح في بيان إنه يتابع بصورة متواصلة كافة الإجراءات التي يجب اتخاذها لمعالجة أزمة الرواتب وتوفير التخصيصات اللاّزمة لذلك. كما طالب الحكومة بتقديم حلول تؤمّن الرواتب من جهة ولا تثقل خزينة الدولة بالديون من جهة أخرى.
وكان وزير المالية العراقي علي عبدالأمير علاوي قد حذّر مؤخّرا من اضطرار الحكومة لتأخير دفع رواتب الموظفين إلى عدّة أسابيع في حال لم تتم الموافقة على الاقتراض، مؤكّدا صعوبة زيادة إيرادات الدولة بالسرعة المطلوبة. وأرسلت الحكومة في وقت سابق مشروع قانون للاقتراض الداخلي بقيمة نحو 34 مليار دولار إلى البرلمان لإقراره بهدف صرف رواتب الموظفين. لكنّ التصويت على المشروع تعثّر في ظل اعتراضات شديدة من قبل أعضاء البرلمان وملاحظات على عدد من بنوده وخصوصا المبلغ المطلوب الذي بدا للبعض مبالغا فيه.
الخصوم السياسيون لرئيس الوزراء يستثمرون أزمة الرواتب لنسف رصيد الثقة الذي شرع في تكوينه لدى الشارع
ويقول مراقبون إن انفجار أزمة الرواتب في العراق قبل شهور من الانتخابات المقرر إجراؤها صيف العام القادم يستبطن دوافع سياسية.
ويلمّح مقربون من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى أن كتلا برلمانية عديدة تحاول إعاقة مسار الحكومة لإفشال مهمتها قبل الانتخابات المرتقبة. وتسود حالة من عدم اليقين بشأن المساحة التي يحتلها الكاظمي على المستوى الشعبي وحجم الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها في الانتخابات القادمة، لكنّ مراقبين يلفتون إلى أنّ رؤساء الحكومات السابقة اعتادوا على أن يحصلوا على جزء كبير من أصوات موظّفي الدولة خلال الانتخابات.
وعلى غرار ما يتوقّعه خصوم الكاظمي بدأت قضية الرواتب تتسلّل إلى الشارع، حيث دخل موظفون حكوميون بعدة محافظات عراقية، الأحد، في إضراب مفتوح عن العمل احتجاجا على تأخر صرف الحكومة لرواتبهم عن الشهرين الماضيين.
ويجري الإضراب بمبادرة من الموظفين بمختلف المؤسسات الحكومية، في محافظات ديالى وبابل والمثنى وذي قار وكربلاء.
ونقلت وكالة الأناضول عن موظفين مضربين قولهم إنّ الإضراب عن العمل سيستمر إلى غاية صرف الرواتب، حيث يشمل مؤسسات صحية ونفطية وخدمية وتربوية.
وقال الموظف في مصفاة نفط ذي قار كريم التميمي إنّ هناك استياء من تأخر صرف الرواتب، ولا يوجد أي مبرر لذلك. وأضاف “رواتب شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين لم تصرف بعد، ونحن في شهر نوفمبر”.
وتساءل التميمي “رغم كل الظروف التي مرت على البلاد وتدني أسعار النفط لم يتم تأخير دفع الرواتب سابقا، فلماذا حاليا؟”.
وبالتوازي مع تحريكها موجة جديدة من غضب الشارع، بدأت أزمة الرواتب تتحوّل إلى موضوع للمزايدات السياسية حيث يجد أكثر من طرف إمكانية للاستفادة منها.
وتقدم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بجملة من المقترحات لحل الأزمة. وكانت موجة الاحتجاجات غير المسبوقة التي شهدها العراق منذ شهر أكتوبر من العام الماضي، قد وضعت الصدر في أزمة سياسية حادّة حيث كلّفه الانخراط في محاولات إنهاء الاحتجاجات بالقوّة خسارة جزء هامّ من رصيده الجماهيري، وذلك عندما تحوّل في الكثير من المظاهرات إلى موضع استهداف مباشر بشعارات الاستهجان من قبل المحتجّين، بعد أن شاركت ميليشيا تابعة له تحت مسمّى “القبّعات الزرق” في قمعهم داخل ساحات الاعتصام والتظاهر.
وبات مألوفا لدى العراقيين تدخّل الصدر في الأزمات ومحاولة تقديمه “حلولا مبتكرة” تظهر “تمايزه” عن باقي السياسيين.
ودعا الصدر في تغريدة على تويتر إلى جباية أجور الماء والكهرباء والخدمات والضرائب والرسوم الجمركية بأياد أمينة، وتسهيل القروض المصرفية لذوي المشاريع المتوسطة والكبرى وتطوير العمل الزراعي في العراق، من خلال توزيع الأراضي على ذوي الاختصاص لزراعتها وأخذ الحصص منها، وخصخصة القطاعين الصناعي والزراعي لمدة معينة لضمان إنعاشهما ومحاسبة المفسدين الذين أضاعوا ثروة العراق في سنين سابقة على نزواتهم وأحزابهم، واسترجاع الأموال المنهوبة منهم، وتنظيم سلّم الرواتب وإخراج الفضائيين (الموظفين الوهميين المسجّلين على كشوف الرواتب)، وذوي الرواتب المتعددة.
ولا تحمل “الحلول” التي اقترحها الصدر أي جديد إذ أنّها مطلب بديهي لجميع العراقيين منذ سنوات، دون وجود أفق وإمكانية لتطبيقها على أرض الواقع في ظل النظام ذاته المسؤول عن شيوع الفساد وتدمير مؤسسات الدولة وإهدار ثرواتها.