المشيشي واختبار الاستقلالية في "حكومة الرئيس 2"

المسار الذي اتخذه رئيس الحكومة المكلف يثير الجدل حول استقوائه بقيس سعيد أم هو إقصاء للنهضة تمهيدا لعزلها نهائيا.
الخميس 2020/08/13
أي تفاعلات للمشهد السياسي؟

بدا رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي واضحا في شكل المسار الذي سيتخذه لتشكيل الفريق الحكومي الجديد بعدما اختار أن يكون مستقلا وبعيدا عن أي انتماء سياسي، وهو اختيار يبدو طريقه شائكا حسب المراقبين وتموّجاته توحي بمطبات عديدة تنتظر الكشف عن مخرجات “حكومة الرئيس 2” إلى العلن.

تستمد هذه الرؤية مبرّراتها من نظرة عميقة للتوازنات التي تطبع المشهد السياسي التونسي وحالة التفكك وعدم الانسجام في رؤية الأحزاب وعجزها عن إيجاد أرضية ملائمة للحكم، في دلالة صريحة على قلة إدراك ووعي بالوضع الحرج الذي تمر به تونس.

وقال المشيشي في تصريح مقتضب وقوي حول المشاورات التي يخوضها وشكل الحكومة المنتظر إنه “سيشكل حكومة كفاءات مستقلة ستركز على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة دون مشاركة أحزاب سياسية بسبب الخلافات العميقة بين الأحزاب الرئيسية في البلاد”.

لقد كشف الرجل دون مواربة أنه اختار طريق الاستقلالية نهجا لعمله المنتظر بعدما تبيّن له أن أي طريق غير هذا لن يكون سالكا باعتبار التأزم الذي يطبع المشهد السياسي والهوة الكبيرة في رؤية مختلف الأحزاب ومستوى تقييمها للوضع الذي تمر به تونس.

وفي وضع كالذي تمر به تونس حاليا من تردّ للمناخ السياسي تلوح مقاربة المشيشي الأقرب إلى روح المنطق حتى وإن بدت هناك مآخذ عديدة على هذا التمشي الذي سيسير فيه الرجل، لكن ماذا يعني اختيار الاستقلالية، هل سيكون ذلك مضمونا لـ”حكومة الإنجاز” التي يعد بها الرجل، وهل سيضمن لها ذلك المرور أمام البرلمان، ماذا عن رؤية الأحزاب لهذا المقترح وخصوصا حركة النهضة التي يراودها الشك في إقصاء من الحكم يكون ممهدا لعزلها نهائيا من المشهد السياسي؟

كل هذه الأسئلة والتخمينات لا تغيب عن رؤية الخبراء والمحللين للمشهد السياسي التونسي الذي يسير نحو أفق غامض، زاده المشيشي غموضا بخيار الاستقلالية نهجا لا غنى عنه، فيما يغمز محللون إلى أنه ربّما يكون بالتوافق مع رئيس الجمهورية قيس سعيد. ويرى

البعض أن خطاب المشيشي بعد مشاوراته المستمرة مع قادة سياسيين ورؤساء حكومات سابقين ورؤساء المنظمات الكبرى ذكّر في الكثير من جوانبه

بخطاب الحبيب الجملي الذي التقى تقريبا طيفا واسعا من ممثلي الأحزاب والكتل البرلمانية الممثلة في المشهد السياسي، لكنه عجز عن إيجاد أرضية تجمع بين مختلف هذه الأطياف لينتهي به الأمر إلى تشكيل حكومة كفاءات أقر أمام الجميع بأنها مستقلة، لكنه تبيّن في ما بعد أنها لم تكن كذلك لتغادر من الباب الصغير عندما لم تنل ثقة البرلمان.

ربما قد لا يسمح المجال لإقامة مقارنة مفصّلة بين الرجلين باعتبار أن لكل مرحلة خصوصيتها ورهاناتها، لكنهما يلتقيان وفق منظور بعض منتقديهما عند ضعف شخصيتهما ومدى قدرتهما على ضبط الإيقاع عندما يتعلق الأمر بأسلوب المشاورات والقدرة على تجميع كتل سياسية يصعب تجميعها خصوصا في هذا الظرف الدقيق.

وأثار هذا الاختيار الذي قرر المشيشي السير فيه الهوة بين مختلف الأحزاب التي تباينت رؤيتها بين مرحب ومعارض. ومباشرة بعد تصريح الرجل تتالت ردود الفعل ولاح الانقسام جليا بين من يرى أن الرجل أصاب الهدف بخيار الاستقلالية الذي لا غنى عنه في حالة كالتي تمر بها تونس،

وهي رؤية الأحزاب المعارضة لحركة النهضة وداعميها. فيما يرى البعض الآخر أن هذه الخطوة من شأنها أن تضع المشيشي في خلاف مع حزب النهضة الإسلامي، وهو أكبر حزب في البرلمان وقد رفض حكومة دون أحزاب.

وبالفعل تتالت تصريحات قياديين في حركة النهضة مستنكرة للقرار وداعية إلى مراجعة هذا الخيار الذي سيسقط الحكومة في حال تشكلها أمام البرلمان. وتدرك النهضة ضمنيا أن أي خيار لا تكون شريكة فيه هو دعوة صريحة لإزاحتها من الحكم، تمهيدا لعزلها نهائيا خصوصا في ظل ما تعانيه من مطبات ليس آخرها العرائض المقدمة لإزاحة زعيمها من رئاسة البرلمان. لذلك يبدو تمسكها بالمشاورات حول طبيعة الحكومة الجديدة محور صراع حقيقي مع بقية الأحزاب مهما علا السقف.

في المقابل يؤيد اتحاد الشغل القوي، وهو أكبر نقابة عمالية في البلاد، واتحاد الصناعة والتجارة وأحزاب مثل تحيا تونس والحزب الدستوري الحر خيار حكومة كفاءات. وتدرك هذه الأحزاب وخصوصا العائلة الحداثية، المعادية للنهضة والساعية إلى تقليم أظافرها، أن هذا الطريق يفتح أمامها بابا واسعا لمزيد التشاور حول رؤية معينة لطريقة الحكم خصوصا في حال تم إقصاء النهضة من الحكم.

وعلى النقيض من ذلك تقف المنظمة النقابية كصمام أمان وسد منيع أمام تغول الحركة الإسلامية ومحاولتها الانفراد بالقرارات السياسية، خصوصا بعدما تبيّن حجم التأثيرات السلبية وسياسة المحاور التي يناور زعيم الحركة راشد الغنوشي لإدخال تونس في أتونها.

وفي مناخ يتسم بالغموض وتباين رؤى الأحزاب ومواقفها من مسألة تشكيل الحكومة، وإعلان مباشر من حركة النهضة بأن خيار الاستقلالية مرفوض شكلا ومضمونا تسير تونس نحو طريق مسدود سياسيا. هذا بالتوازي مع تزايد سقف المطالب الاجتماعية في الجهات الداخلية وتوسع الحملات المناهضة لحالة الجمود السياسي التي تطبع البلاد والارتهان للخارج وللصناديق الدولية أساسا.

هذه الاستفهامات وغيرها ينتظر أن تكون تفاعلات المشهد السياسي في الأيام التالية مضمّنة لأجوبة لها لكن وفق أي منهج وأي مسار؟ هذا ما ستتحدد ملامحه مع ما يُطبخ في كواليس القصبة ورئاسة الجمهورية فيما تبقى أعين رئاسة البرلمان مفتّحة على كل شاردة وواردة رغم محاولة تبريد الأجواء باستقالات لا تحمل في مضامينها سوى نذر قليل مما يتطلع له التونسيون، وهو عزل الحركة ورئيسها أولا وأخيرا.

6