الإعلام المصري والقضايا الخارجية.. الاهتمام أقل من التحديات

بدأت وسائل الإعلام المصرية بالالتفات نحو القضايا الإقليمية والسياسة الخارجية، وخصوصا في ما يتعلق بسد النهضة والدول المؤثرة على هذا الملف الحساس بالنسبة لمصر، لكن الإغراق في المحتوى المحلي يجعل هذا الاهتمام أقل من المأمول.
تحولت بعض القضايا الإقليمية إلى ملفات نشطة لدى وسائل إعلام محلية، ومنصات التواصل الاجتماعي مؤخرا، ومع ظهور تراشقات واستقطابات إقليمية حادة في ملف أزمة سد النهضة، وتراجع التركيز عليه في الخطاب السياسي، بدأ الاهتمام بالخطاب الإعلامي، وتشكلت مجموعات إلكترونية تابعة لكل من مصر وإثيوبيا والسودان، تدافع عن وجهة نظر البلد الذي تنتمي إليه، ما فرض على وسائل إعلام مصرية التخلي عن فضيلة التجاهل.
وتحاول المنصات الإعلامية المصرية متابعة تطورات القضايا الخارجية وتحطيم القيود التي كبلتها، واقتربت من ملفات كانت توصف بالشائكة، مثل السودان الذي كان غائبا تقريبا، ويصعب التطرق لأي زاوية تشي بالانتقاد لتجنب حساسية غير مبررة وتأويلات متباينة، جميعها تحمّل القاهرة مسؤولية كل شاردة وواردة في السودان، ويتعاظم رد الفعل حولها إذا كانت سلبية.
واختارت الحكومة المصرية الطريق السهل لتجنب حدوث أزمات مع الخرطوم، وكانت تبعث برسائل ضمنية للمسؤولين عن الإعلام المحلي بالابتعاد عن الشأن السوداني، الأمر الذي جعل أشقاء في جنوب الوادي يعتقدون أن ذلك بمثابة إهمال متعمد لا يليق بهم.
وبدأت العقدة تتحرك مؤخرا، وأخذت تطورات السودان طريقها نحو الإعلام المصري بكثافة، مع بقاء الحساسية ذاتها، واستمدت الحلحلة الإعلامية جزءا من عافيتها بظهور نظام جديد في الخرطوم، لكن ذلك لم يكن كافيا، حيث بقيت القاهرة متهمة في نظر قطاع من السودانيين.
ولا تزال هناك تفاصيل غائبة عن الجمهور في مصر لوجود فقر مهني في نقل ما يجري في السودان، وهو شأن معقد يحتاج كفاءة ودقة في التعامل معه لا يعدمها كتاب وباحثون كثيرون بمصر، لكن لا تتاح لهم الفرصة للتعبير عن رؤاهم في الإعلام، عن قصد أو جهل.
وما ينطبق على السودان ينسحب على إثيوبيا، في التوصيفات والمعالجات والمخرجات، مع فروقات إعلامية هامشية، حيث ظلت متابعة التطورات في الإعلام المصري فقيرة أو مختفية تماما عن الجمهور، والذي فوجئ بعضه بالتصعيد في ملف سد النهضة، ما فتح الطريق للاهتمام به دون أن يصل إلى إلقاء الضوء على إثيوبيا من الداخل وعلاقاتها الإقليمية.
ظهور مجموعات إلكترونية تابعة لكل من مصر وإثيوبيا والسودان تدافع عن وجهة نظر البلد الذي تنتمي إليه فرض على وسائل إعلام مصرية التخلي عن فضيلة التجاهل
ولم تحظ ليبيا، وهي على مرمى بصر وتعج بأزمة محتدمة وتلقي بظلالها المباشرة على الأمن القومي المصري بنصيب من الاهتمام، وبدت غالبية المقاربات الإعلامية محدودة أو سطحية، بما لا يتناسب مع تعاظم التحديات، والانخراط الرسمي في تفاصيل الأزمة.
قس على ذلك إعلاميا، تدخلات قطر واحتضانها للجماعات المتطرفة، وتركيا في ليبيا وشرق البحر المتوسط، وتطورات القضية الفلسطينية والأزمة السورية وأحداث العراق ولبنان واليمن، وتشابك تحركات التنظيمات الإرهابية، وعندما يأتي الحديث على الدوحة وأنقرة أو غيرهما تبدو المعالجة دعائية، وتفقد أهم ميزة في التناول، وهي الموضوعية، حتى لو كان في إطار الحرب الإعلامية المتبادلة بين الدول.
ويعكس اهتمام الإعلام الوطني بالقضايا الخارجية مستوى آخر من التأثير، ويكشف لأي مدى يمثل هذا الملف أو ذاك تحديا للدولة، والناظر لأداء الإعلام المصري الفترة الماضية يجد تناوله لا يتناسب مع الأزمات الإقليمية المتصاعدة.
ويفسر البعض هذه النتيجة بأنها متوقعة في ظل القيود المفروضة على الإعلام، في إسقاط نمطي يحمل استسهالا واضحا، ولا يجتهد أصحابه في التفسير الحقيقي، ويرجع البعض الآخر المسألة إلى ضعف القائمين على الإعلام وعدم قدرتهم على متابعة القضايا المتلاحقة، بالتالي الافتقار إلى تقديم ما يحتاجه الجمهور من وجبة إعلامية بها معلومات وتحليلات نافعة.
يشير ارتفاع وانخفاض الاهتمام بالسياسة الخارجية في الإعلام شجونا كثيرة، لأن مشكلته لا تنفصل عن المحتوى المحلي الطاغي، وطرق التفكير المتحكمة في سلوك القائمين بالاتصال، فالهدف من الإسراف في المضمون المحلي تأكيد حجم الولاء للنظام الحاكم، مع أن الإسراف في المضمون الخارجي يؤدي إلى النتيجة نفسها، وربما يزيد عليها، فمهما بلغت التداعيات السلبية في الأولى، تظل الثانية أشد خطورة، ويصعب السيطرة عليها في أحيان كثيرة.
في ظل ندرة المتمرسين في القضايا الخارجية والشغوفين بمتابعتها، كان من المفترض التوعية بالمخاطر عبر تكثيف الجرعات من خلال وسائل الإعلام، ما يمحو حديث التجهيل، لذلك فأي حسابات هنا تصبح قاصرة، لأنها لم تراع حالة الجمهور المصري عندما يستيقظ ويجد نفسه على موعد مع انفجار إحدى الأزمات الساخنة التي تحيط به من الشرق والغرب والجنوب.
حجم اهتمام الإعلام بالسياسة الخارجية مشكلة لا تنفصل عن المحتوى المحلي الطاغي وطرق تفكير القائمين بالاتصال
إذا لم يجد الجمهور ما يبحث عنه في إعلامه سيلجأ إلى نظيره المعادي، الأمر الذي يبرر إقبال فئة من المصريين على إعلام قطر وتركيا، وإهمال ما يقدمه إعلام بلدهم، والذي بات مكتفيا بالبيانات الرسمية والاستفاضة في شرحها وإعادة تدويرها، ما يضر بأهدافها النهائية.
ويستطيع المتابعون للحالة الإعلامية تفسير الترهل الحاصل في الاهتمام بالقضايا الخارجية، من واقع أن المسؤولين عنه من الإعلاميين هم السبب الرئيسي في الأزمة، والنسبة التي تتحملها الجهات الرسمية تبدو أقل، لأنها بطبيعتها تميل إلى السرية والإخفاء، ولا تفهم حدود الرسالة الإعلامية الجيدة أو دورها الكبير في الدفاع عن الأمن القومي.
ويقول مراقبون، إن الإعلام المصري يواجه أزمة في القائمين على رسم السياسات والكفاءات المنوط بها تحمل مسؤوليتها، فالأولى ينصب تركيزها على تلميع رأس الدولة وإنجازاته، ولا غضاضة في ذلك، فهو في المقابل لا يعني الامتناع عن تناول القضايا الخارجية، حتى لو تراصت المحرمات بشأن ضرورة غض الطرف عن بعض الملفات، ولا يعني التجاهل التام أو التطرق بحذر زائد، فمن أهم أدوات التعامل مع المشكلات التوعية الإعلامية.
وتظهر الأزمة الكبرى عندما يحتاج صانع القرار لتعبئة شعبية تعينه على اتخاذ إجراءات غير مألوفة، وتوضيح الخسارة في قضية ما، لأن مهمة التهيئة لا يستطيع القيام بها سوى جهاز إعلامي قوي، ولعدم وجود هذه الصيغة يحصل ارتباك عند تناول بعض الموضوعات الخارجية، واللجوء إلى خطاب دعائي لا يصلح في القضايا ذات الأبعاد الإستراتيجية.
ويؤكد خبراء، أنه مهما بلغت رقابة أجهزة الدولة فهي تترك هامشا للحركة أمام الإعلاميين الواعين لرسالتهم، بعضهم يحاولون استغلاله، وغالبيتهم يؤثرون السلامة وينفذون التعليمات الصادرة إليهم، مع أن الهامش المحدود مطاط ويحتمل توسيعه في بعض القضايا الخارجية، خاصة إذا أحسن الإعلامي المعالجة المهنية، لأنه يقدم خدمة للحكومة ويمنحها مساحة للمناورة حتى لو جاءت تقديراته خاطئة.