هل ننجح في توظيف التكنولوجيا الحديثة لحماية أمننا الغذائي؟

بعد المدن الذكية، الإمارات تقود الجهود العربية لاستكشاف الزراعة الذكية.
الجمعة 2020/06/05
كل شيء بخير.. هكذا يقول الذكاء الاصطناعي

وحده الذكاء الاصطناعي يمكنه إنقاذ البشرية من أزمة تلوح في الأفق، بعد ثلاثين عاما من الآن يصل عدد سكان الأرض إلى 9 مليارات، بينما موارد العالم الغذائية تتناقص، لأسباب يعود بعضها للهجرة من الأرياف، وبعضها الآخر للتغيرات المناخية. اليوم بوجود 7 مليارات شخص في العالم، هناك عجز في إطعامهم، ويأمل الخبراء في مواجهة الكارثة اعتمادا على ثورة زراعية تساعد في زيادة الإنتاج باستخدام موارد أقل. فهل تنضم الدول العربية لهذه الثورة، أم تبقى خارجها تنتظر المساعدات؟

"ما أحلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح، يتمرغ على أرض براح". هل حقا عيشة الفلاح حلوة كما تقول كلمات الأغنية؟

الزراعة في معظم الدول العربية مرتبطة بالأرياف، وبقرى غالبا ما تكون مهمشة، الصورة النمطية عنها طرق وعرة يحف بها التين الشوكي والقصب، تسرح فيها العقارب والأفاعي، وبيوت ترابية محرومة من الخدمات الصحية.

أما هؤلاء الذين عاصروا أسمهان عندما غنت من كلمات بيرم التونسي وألحان محمد عبدالوهاب أغنية (ما أحلاها عيشة الفلاح)، فقد ظلوا يرددون منذ عام 1939 الكلمات الأربع من مطلع الأغنية دون تفكير بمضمونها، بينما الفلاح المتعب المرهق يبحث عن طريقة يتحرر فيها من عبودية الأرض، لذلك كانت الهجرة من الريف إلى المدينة والتمرغ بترابها وتراب الميري.

معظم المنضمين لقوى الأمن والجيش في الدول العربية هم من أبناء الريف، فالزراعة لم تعد تفي بأقل احتياجاتهم؛ مشاكل في الري، وفي الأعلاف والمبيدات، ومنافسة حادة من دول متقدمة تحولت الزراعة فيها إلى صناعة.

إذا كان الوضع قاتما الآن، ماذا سيحدث بعد عشر سنوات أو أقل؟

خلال عقد من الزمان سيتواصل زحف التكنولوجيا، وتعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات القطاع الزراعي في العالم، بينما الفلاح في بلادنا يناضل للحصول على ماء نظيف والحد الأدنى من الخدمات الصحية.

ريف بيرم التونسي اختفى من نصف قرن وأكثر، وهو حتما لن يكون له أثر بعد عشر سنوات من الآن، وإن فشلنا في توظيف الذكاء الاصطناعي في قطاع الزراعة، سنكون شهودا على انقراض هذا القطاع؛ لن يعود هناك من يربي الدواجن والمواشي ويزرع الحبوب.. ببساطة شديدة لأن كلفة الإنتاج ستفوق بكثير سعر البيع.

هل قدرنا أن نتحول إلى دول مستوردة للغذاء، وماذا عن الأمن الغذائي الذي نسمع حوله العشرات من المحاضرات ونعقد من أجله الندوات؟

سياسات ارتجالية

ثامر راشد القاسمي: الابتكار هو السبيل لتوفير الغذاء لـ9 مليارات شخص عام 2050
ثامر راشد القاسمي: الابتكار هو السبيل لتوفير الغذاء لـ9 مليارات شخص عام 2050

لقد خسرنا معركتنا مع الأمن الغذائي منذ فترة طويلة؛ لنأخذ الأعلاف مثلا، معظم الدول العربية عاجزة عن تأمين حاجتها من الأعلاف محليا. بالطبع هناك مشاكل على رأسها يأتي الجفاف، ولكن هناك من يجادل بأننا ندفع ثمن عدم التخطيط، خاصة بأنظمة ري متخلفة، وحجم مهدور من المياه يصل إلى أضعاف حجم المياه المستفاد منها.

نحن مهددون فعليا بأمننا الغذائي. ولكن، رغم قتامة المستقبل، هناك طاقة أمل يتيحها لنا الذكاء الاصطناعي؛ هو وحده القادر على إيجاد الحلول، فهل سنعمل على الاستفادة منه، أم سننسحب جانبا وننتظر من يتصدق علينا؟

الحكومات هي المسؤولة عن الحالة التي آلت إليها الفلاحة في بلداننا، فهي لم تفعل الكثير لتحسين البنية التحتية للأرياف، واختارت عدم التصدي لمشكلة تفتت الملكيات بسبب قوانين الوراثة؛ اليوم لا يتجاوز حجم الملكية الزراعية 10 هكتارات، في 75 في المئة من المزارع، ولا يتجاوز عدد الأبقار في كل منها ثلاث بقرات، بينما يستغل الفلاح الفرنسي خمسين هكتارا في المتوسط، ويحتفظ بخمسين بقرة. هذه الأرقام أكبر بكثير في دول مثل الولايات المتحدة وأستراليا وكندا.

هذا يخلق مشكلة في مستوى الإنتاج، وبالتالي في إمكانية الحصول على قروض، ويحول دون التوصل لمستوى يؤهل القطاع للدخول في منافسة عادلة مع الإنتاج الزراعي على المستوى الدولي.

وكما هو الحال بالنسبة إلى مختلف القطاعات، تعود مشكلات الفلاحة إلى سلسلة من التراكمات والسياسات الارتجالية، أولى هذه المشكلات تتمثل في الأمية الفلاحية، التي تشكل عائقا كبيرا أمام استخدام التكنولوجيا، وما تتطلبه المنافسة الدولية من قدرة على المواكبة والتكيف السريع مع تقنيات الإنتاج.

لا يمكن الحديث عن خطة جدية للتنمية، دون الأخذ بعين الاعتبار تطوير القطاع وفق مخططات علمية تضمن الاستغلال الفعّال للإمكانيات والكفاءات المحلية، ويزداد هذا التحدي مع التطور المتسارع الذي يشهده العالم في إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي.

لن تستطيع الحكومات الاكتفاء بموقع المتفرج، يجب أن تبدأ بتدريب المزارعين على كيفية استخدام هذه التقنيات، وشرح جدواها الاقتصادية على المدى البعيد.

توفير الوقت والمال

خلال عقد من الزمان سيتواصل زحف التكنولوجيا وتعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بينما الفلاح في بلادنا يناضل للحصول على ماء نظيف وحد أدنى من الخدمات
خلال عقد من الزمان سيتواصل زحف التكنولوجيا وتعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بينما الفلاح في بلادنا يناضل للحصول على ماء نظيف وحد أدنى من الخدمات

دولة الإمارات التي كانت سباقة على المستوى العربي والعالمي في تطوير وتوظيف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مدنها التي تحولت خلال بضع سنوات إلى مدن ذكية، لم تنتظر طويلا للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في إستراتيجية تهدف لتحقيق الأمن الغذائي.

التكنولوجيا متاحة للجميع، حتى الصحراء يمكن أن تتحول إلى واحة خضراء، اليوم هناك إمكانية للزراعة حتى في الماء دون الحاجة إلى تربة.

وكانت الإمارات قد استضافت العام الماضي “المنتدى العالمي للابتكارات الزراعية” الذي اختار له المنظمون الذكاء الاصطناعي محورا أساسيا. وفي مداخلته أكد رئيس اللجنة المنظمة ثامر راشد القاسمي أن “المنتدى ينطلق من تصور مفاده أن الابتكارات المتواصلة في مجال الزراعة هي السبيل الوحيد لتوفير الغذاء لتسعة مليارات شخص في العالم بحلول عام 2050”.

هناك اتجاه عالمي متزايد نحو الاعتماد على التقنيات التي من شأنها المساهمة في تحسين المحاصيل ومكافحة الآفات وزيادة الأرباح وترشيد استهلاك المياه والتغلب على التحديات البيئية كتغير المناخ وملوحة التربة وشح موارد المياه.

ويسعى الخبراء إلى الوصول لزراعة مستدامة في كافة أنواع الإنتاج الغذائي ضمن 5 مجالات رئيسية هي الزراعة المحمية، والزراعة المائية، والاستزراع السمكي، وإنتاج وتربية المواشي والحيوانات وإنتاج التمر وتربية الأحياء المائية والمحاصيل المستدامة.

لن تستطيع الحكومات الاكتفاء بموقع المتفرج يجب أن تبدأ بتدريب المزارعين على كيفية استخدام هذه التقنيات وشرح جدواها

لم تكتف الإمارات باستخدام الروبوت في زراعة وجمع المحاصيل، بل استخدمت الذكاء الاصطناعي لتنظيم عملية الري، بما يتناسب مع درجة حرارة الجو والتربة، وإخطار المزارع بالأمراض والآفات التي قد تهدد أي صنف من المحصول، مما يسهم في درء المخاطر وتوفير الوقت والمال.

ويؤكد خبراء في الزراعة أهمية اللجوء لزراعة الأجنة النباتية بالمختبرات، لتجنب التأثير الخارجي للتغير المناخي، ويشجعون المزارعين على اتباع أنماط زراعية حديثة، منها العمودية، وهي نوع من الزراعة تنمو فيها المحاصيل على وحدات معلقة في منشآت داخلية يتم التحكم بمناخها آليا.

ويقوم شباب من الإمارات بتجارب داخل منازلهم، ضمن مشاريع زراعية محدودة المساحة، يأملون بتوسعتها مستقبلا، فضلا عن تجارب زراعية أخرى، تستخدم أساليب حديثة وتعمل على توفير المنتجات طوال العام، دون الارتباط بالموسم الشتوي كما هو الحال لدى الغالبية الآن.

البداية كانت مع المهندس إبراهيم يوسف العبيدلي، مؤسس “أرضية الإبداع للحلول المعلوماتية”، التي تعمل على تطوير جهاز يختص بالزراعة الحديثة، يعمل على تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد ويرتبط بإنترنت الأشياء.

ويعمل الجهاز على طباعة البيانات، من خلال زراعتها في مساحة محددة، فيحدد نوع النبات المناسب للزراعة، وكمية المياه التي يحتاجها، والوقت المناسب لذلك، فضلا عن متابعة رطوبة التربة ودرجة الحرارة، كما يتيح للمستخدم رؤية محصوله عن بعد بواسطة كاميرا مثبتة به؛ أيضا إعلامه بموعد قطف الثمار من خلال رسالة تخبره بذلك.

ويجري العبيدلي دراسة لزيادة المساحة القابلة للطباعة الزراعية، حيث قام بالفعل في طباعة ثلاثية الأبعاد لمساحة زراعية في حديقة منزله، تبلغ 12 مترا مربعا، ويعمل على جعلها مساحة غير محدودة مستقبلا، كما يسعى إلى تطويرها، بهدف إتاحة التقنية أمام جميع المزارعين وبتكاليف معقولة، ومراعاة سهولة الاستخدام، كذلك جعلها تعتمد على الطاقة الشمسية، وبالتالي طباعة الزراعة في أي مكان، دون حاجة لوجود كهرباء.

والجهاز قابل للاستعمال في المدارس، بهدف تدريب الطلبة عليه، كذلك قابل للاستخدام في المنازل من قِبل الأفراد العاديين، وهو عبارة عن روبوت إلكتروني، يعمل على وضع البذور وريّها وتحليل خصوبة التربة، ويمكن أن يتواصل مع الآخرين عبر الأجهزة الذكية والإنترنت.

المعضلة الحقيقية تكمن في التكاليف التي يتكبدها المزارع الذي يستخدم الوسائل الزراعية الحديثة، فالمنتج المحلي عبر هذه الوسائل ترتفع قيمته بنسبة 30 في المئة تقريبا، مقارنة مع بلدان المصدر، في حالة استيراد ذات المنتج، لأسباب تتعلق بالشحن والمياه والطاقة، فضلا عن الأيدي العاملة.

5 مجالات للوصول إلى زراعة مستدامة:

  • الزراعة المحمية
  • الزراعة المائية
  • الاستزراع السمكي
  • إنتاج وتربية المواشي والحيوانات
  • إنتاج التمر وتربية الأحياء المائية

ولا يمكن تجاوز تلك العقبات إلا بدعم الجهات المختصة للمزارعين الذين يستخدمون تقنيات حديثة، من أجل النهوض بمستوى الزراعة بالدولة، كي تتحول إلى الاكتفاء الذاتي طوال فصول العام، على غرار الموسم الشتوي، الذي يفيض فيه الإنتاج المحلي، وأحيانا يتم تصدير بعض المنتجات لبلدان أخرى.

ومع التزايد المستمر في نقص الرقعة الزراعية الخضراء وانتشار الملوثات والمبيدات، ظهرت الحاجة لتبني نظم جديدة تعتمد أكثر على الفرد لتوفير احتياجاته من الغذاء، حيث كان التحدي هو توفير احتياجات النبات من الماء والتربة والغذاء حتى في أضيق المساحات، لذا ظهرت تقنيات جديدة غير تقليدية، تساهم في تحقيق طفرة في مجال الزراعة.

وأكد المهندس سمير الكاشف مدير شركة (جونيار للزراعة العضوية)، أن لا مستقبل للزراعة في العالم إلا من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ودولة الإمارات تسير بخطى ثابتة على هذا الطريق، مواكبة للتطور.

وتساهم أنظمة الذكاء الاصطناعي في تحديد مشاكل تضر بالمحاصيل الزراعية، مثل نمو الفطريات ونقص المياه، ويمكن للتطبيقات الكشف عن هذه المشاكل قبل التعرف عليها بالعين المجردة.

ويتوقع أن تشرع المزارع المحلية في استخدام هذه التقنيات خلال السنوات الخمس المقبلة، لكن هنالك معوقات لهذه التكنولوجيا، كما هو الحال عليه بالنسبة لمعظم البرمجيات القائمة على الذكاء الاصطناعي، والتي تعتمد على التدرب على بيانات معينة، ما يعني أن تشخيصها لن يكون بالدقة ذاتها لكافة أنواع المحاصيل أو في جميع المزارع.

وتعتمد التكنولوجيا الحديثة أجهزة استشعار تقيس طول الموجات الضوئية التي لا تراها العين البشرية، ليتم تحليل هذه الأطوال للحصول على دلالة على صحة المحصول الزراعي.

ولأن الذكاء الاصطناعي أصبح شرطا لأي تطور مأمول، شدد الدكتور رائد أبوزعيتر، قسم هندسة الكمبيوتر بجامعة عجمان، على أهمية إشراك هذه التقنيات الجديدة في المجال الزراعي، في ظل ارتفاع عدد السكان وما يرافقه من زيادة كميات الغذاء التي يحتاجون إليها.

هناك تطبيقات عديدة للذكاء الاصطناعي، يمكن أن يساهم كل منها في خدمة العاملين في القطاع الزراعي، ويسهم في خفض التكاليف والأيدي العاملة؛ منها تطبيق يكتشف الأمراض في المحاصيل قبل الإصابة بها، مما يوفر الوقت والجهد على المزارع، كما أن الأقمار الاصطناعية وطائرات “درون” أصبح لها دور بارز في التقاط صور للحقول، ومن خلال تحليل الصور والخوارزميات، يمكن التعرف إن كانت الحقول معرضة للإصابة بالآفات الزراعية، وبالتالي منع حدوث الإصابة.

أيضا هناك اليوم روبوتات ذكية تقوم بجني المحاصيل أوتوماتيكيا، ويمكن عن طريق الكمبيوتر معرفة ما إذا كان المحصول جاهزا لقطف ثماره، وأكثر ما يميز هذه التطبيقات، أنها تعمل على مدار الساعة دون كلل أو تعب، كما هو الحال لدى الأيدي العاملة التي يمكنها العمل لساعات محددة فقط.

تغيرات مناخية

 الذكاء الاصطناعي أصبح شرطا لأي تطور مأمول
 الذكاء الاصطناعي أصبح شرطا لأي تطور مأمول

لم تعد الأعشاب الضارة مشكلة تؤرق المزارعين، هناك اليوم تطبيقات مختصة باكتشاف الأعشاب الضارة، والتخلص منها، تجنبا لإصابة المزروعات بأمراض تحدّ من نموها.

النصائح التي تقدم للمزارعين، هي جزء أيضا من اهتمامات الذكاء الاصطناعي، بما يعرف بـ”الأنظمة الخبيرة”، تقدم معلومات ونصائح تتعلق بدرجة ملوحة التربة، ونوعها، ودرجة الحرارة، مما يزيد من الإنتاجية، كذلك الحال بالنسبة لنظام الري، الذي يمكن من خلاله الحد من الهدر بالمياه.

وشرعت الإمارات في استخدام هذه التطبيقات، للحد من التغير المناخي وتأثيره على الزراعة، كما هناك أبحاث حول زراعة النخيل، تستخدم بالفعل الذكاء الاصطناعي، وبالمستقبل سوف يتم استخدامها في شتى أنواع الزراعة.

أوضح الدكتور مجد جرعتلي اختصاصي زراعة الخلايا والأنسجة النباتية أن التقانة الحيوية الخضراء تتصدر قائمة التقنيات الزراعية الحديثة في تحديها لمشاكل التغير المناخي، الذي يشهده ويعيشه العالم، كما تتصدر قائمة كافة أنواع علوم التقانات الحيوية “البيوتكنولوجي”، وذلك من خلال تقنية “زراعة الخلايا والأنسجة النباتية”، التي تعتبر من أحدث وأهم وأشهر الاختصاصات في العلوم الزراعية المتطورة والمستخدمة حاليا، وأكثرها فائدة للبشرية جمعاء.

وقدمت تقنية الزراعة النسيجية من خلال مختبرات زراعة الخلايا والأنسجة النباتية ما لم تقدمه الطرق الزراعية التقليدية المتبعة سابقا، ووفرت العديد من الفوائد، وفي مقدمتها عدم تأثرها المباشر أو غير المباشر بمشاكل التغير المناخي، الذي يشكل خطرا على الإنتاج الزراعي وكمية الغلة الزراعية الناتجة في دول العالم كافة.

12