جمعة اللامي عراقي تمتزج الرواية في كتابته بالشعر

"مَن قتل حكمة الشامي؟"، أيهما أهم “السؤال الذي يبدو كما لو أنه مقدمة لرواية بوليسية أم حكمة الشامي نفسه؟”. حكمة الشامي في قصة جمعة اللامي الأكثر شهرة هي في حد ذاتها سؤال وجودي، مصباح ليلي وانعطافة حادة بين حياتين.
كان اللامي واحدا من أهم القصاصين العراقيين الذين ظهروا في العقد الستيني من القرن العشرين. لنقل إنه كان الأكثر جرأة في التجريب الشكلي. بشكل كتابي جديد لم يكن معروفا من قبل ولم يكن يومها ممكنا في سياق تقنيات الطباعة فكان جزء من القصة يُنشر كما كُتب باليد. لعبت صورة الكتابة دورا في تقنيات القص.
كان البشر يختفون في خضم صراع حزبي مرير، وكان الشامي رمزا لظاهرة الاختفاء تلك. ولأن الكتابة في السياسة لم تكن ممكنة تلك الأيام فكان لا بد من اللجوء إلى الترميز.
حكمة الشامي الذي هو صورة محلية للبطل كما اقترحه الفكر الوجودي هو في الوقت نفسه القرين الذي تمثلت من خلاله تجربة الحزبيين المعارضين في العراق. كان الوضع مضطربا يومها وهو ما أضفى شيئا من الغموض على الوضع البشري.
تشبث اللامي بالمكان الأول في محاولة منه للخروج من التباس المشهد السياسي. لقد وجد في الحكايات التي تنبعث من ذلك المكان مثل الروائح والأصوات ملاذا آمنا يحقق من خلاله رغبته في الاتصال بالواقع من خلال أسطرته.
قبل شيوع تيار الواقعية السحرية كان اللامي قد اكتشف السحر الذي ينطوي عليه الواقع من خلال قوة الناس العاديين وهم يعيدون ما يجري من حولهم إلى أصول ما ورائية.
كان اللامي من أوائل المتمردين على السرد التقليدي. تجريبيا كان في احتفائه بالمكان باعتباره بطلا. وكان في ذلك قد حقق نقلة مهمة على مستوى التعرف على حقيقة المكان التي تتجاوز صورته المرئية. الجنوب العراقي وميسان تحديدا كانت عنوان العلاقة التي أنشأها اللامي بالمكان لقد استعاد ذلك المكان طاقته الحلمية التي فقدها واقعيا. وهو ما انعكس على الشخصيات التي يبدو جزء منها ملتصقا بعالمه الخفي.
المنشق وبيانه الجمالي
ولد اللامي في العمارة، مركز محافظة ميسان جنوب العراق، في بداية عقد الأربعينات من القرن الماضي. استقر في بغداد عام 1960 ناشطا صحافيا وسياسيا. بعد انقلاب 1963 اقتيد إلى السجن في إطار الحملة التي شملت أعدادا كبيرة من المثقفين العراقيين المنتمين إلى التيارات السياسية اليسارية. كان السجن مناسبة لصقل نزعته الثقافية وتثويرها.
عام 1965 بدأ بنشر قصصه في المجلات العراقية والعربية. بدأ العمل الصحافي في مجلة “ألف باء” الأسبوعية عام 1969.
وعمل قبلها في مجلة ”الهدف“ الفلسطينية ومجلة ”وعي العمال“ ببغداد. بعد أن أصدر كتابه القصصي الأول عام 1976 غادر العراق إثر حملة جديدة شنتها الأجهزة الأمنية لاعتقال المثقفين المشكوك بولائهم للحزب الحاكم. بعدها استقر في الشارقة ليعمل في الصحافة هناك، ولينال جائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي لاحقا.
أصدر اللامي الكتب القصصية التالية “اليشن”، “الثلاثيات”، “التراجيديا العراقية”، “اليشنيون” و”على الدرب”، كما أصدر روايات ثلاثا هي “المقامة اللامية”، “مجنون زينب”، “عيون زينب” و”الثلاثية الأولى”. كما أصدر عددا من الكتب الأخرى التي تتعلق باهتماماته الصحافية.
في سيرته التي يتغلب فيها الطابع الأدبي على الطابع السياسي يبدو اللامي منحازا إلى أصول تمرده التي لا تنسجم مع الوصفات العقائدية الجاهزة. لذلك لم يتبن في منفاه وجهة نظر سياسية تضمه إلى جماعة بعينها.
كانت حريته أعز من أن تلمس بطريقة نفعية. وفي حقيقتها فإن تلك الحرية كانت مستلهمة من قدره كاتبا وجوديا يرغب في رد الاعتبار إلى الكثير من الأماكن والطقوس والعلاقات الجميلة والمدهشة بطريقة تنظيمها.
جسّد اللامي شخصية المنشق الذي ينادي بأسبقية الجمال. وما لا يفكر فيه العقل السياسي فرضته عليه نزعته الجمالية. فكان أن أقدم اللامي على تحويل لغة المتصوفة إلى لغة حياة وصار ينظر من خلال تقنياتها إلى العالم مستفيدا من ثقافة فلسفية صارت الوقائع الروائية تمر من خلالها كما لو أنها شذرات.
المرجعيات الحزينة
لا يخفي اللامي تأثره بالحكايات الشعبية الشفاهية وبالأخص منها تلك التي تستند إلى الخرافة. مخيلته تنشط حين تكون هناك ألغاز تبحث عن مفاتيحها. لذلك نراه في بعض قصصه التي يفصل فيها بين المتن والهامش. فالمتن هو تصوير لما يُرى ويُعاش بشكل مباشر أما الهوامش فإنها تتعلق بالمرجعيات غير المرئية. وغالبا ما تكون تلك المرجعيات حزينة.
لقد استمد اللامي من الطقوس الدينية الشعبية التي كانت جزءا من طفولته قوته في التآلف مع عاطفة شعرية استطاع أن يوظفها في خدمة المسار السردي لأبطاله. لذلك يشعر المرء وهو يقرأ نصوص اللامي القصصية بأن قدميه لا تمسان الأرض أو أن الأرض تحت قدميه رخوة. شيء ما يمهد للدخول إلى عالم الجن. كتابة اللامي هي أشبه بالمس الذي يصيب المرء بالهذيان.
ذلك التداخل بين ما هو مرئي وبين ما هو لا مرئي يتيح للكاتب أن ينفتح على عوالم خفية، هي عبارة عن مرايا متعددة تظهر من خلالها الواقعة الواحدة بأشكال مختلفة كما لو أنها مجموعة من الوقائع التي لا تؤدي إلى النهاية نفسها. لذلك تبدو قصصه كما لو أن أحداثها مستمرة. فالحدث يستمر من خلال القدرة على تذكره بطريقة أسطورية.
خلق اللامي أساطير معاصرة من خلال قصصه ورواياته. تلك الأساطير لا يمكن النظر إليها بمعزل عن مرجعياتها التي لا تزال تترجم وقعها من خلال عاطفة شديدة التأثير في العقل الشعبي العراقي. ذلك ما يحسب له باعتباره كاتبا معاصرا نجح في تحويل الحكايات الشفاهية إلى قوة خيالية دافعة من خلال استلهام عاطفتها الشعرية.
أعتقد أن اللامي كان الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يحتوي العاطفة العراقية. كان سرده خزانة لشعر لم يكتب وكان أبطاله يتحركون مثل قصائد.
شاعر السرد العراقي
غالبا ما يتحدث عن أسطورته الخاصة. تلك الأسطورة التي خلقها لتناسب سيرته في الحياة. غير أنه يقول “أنا شاعر السردية العراقية. وريث الجاحظ وحفيد بلزاك”. وهو إذ يتذكر الجاحظ فلأنه يبدو وفيا لمنهج التأليف الذي يقفز بين الأجناس الأدبية فلا ينتمي إلى أحد منها غير أنه لا يفارقها. أما بلزاك فإنه يضعه في قلب الحقيقة الروائية التي يود أن ينتسب إليها.
لم تكن قصص اللامي مجرد حكايات وفي المقابل فإن لغته لم تفلت من إطار القص في اتجاه الشعر الخالص. كان شاعرا في حدود ما تفرضه اللحظة الروائية. لقد قبض على تلك اللحظة في أقصى درجات توترها فسالت اللغة بين يديه شعرا.
أخلص اللامي لمدينته “ميسان” وهي اليشن وكان وفيا للكائنات التي مر من خلالها إلى العالم غير أنه في الوقت نفسه كان قد صنع اتجاها فنيا في القص لم يسبقه إليه أحد. قد يذكر ذلك الاتجاه بما صار يُسمى في ما بعد بـ”الواقعية السحرية” ولكنه كان سابقا لها. كان سحر الكتابة قد تمكن من جمعة اللامي في الوقت نفسه الذي تمكن منه سحر العرافات في مملكة ميسان التي يعيش فيها باعتبارها وطنه الخيالي.
صباح الخير يا شمران
نص للامي مهدى إلى شمران الياسري
في هذا الصباح، سأحمل وردة حمراء، إلى مكان في هذا الخليج المكابر، فأنا لا أعرف مكان قبرك، وأغرس ساقها الأخضر في صخرة جلمود، وسوف تتفتح مسامات تلك الصخرة، وتستقبل وردتك الحمراء ضاحكة، لأن الجماد الأصم يعرفك، فكيف بالشجر والبحر والفصول الأربعة؟ وعندما يمرُّ عليَّ صيادو الشارقة وعجمان ورأس الخيمة والناس المتعبون في كل هذا الساحل العربي، ويرون الصخرة الجلمود تتضوّع عبيرا ساحرا، إذ تتعرف على وردتك، سأقول لهم: من يعرف شمران لا فكاك له عن الحب.
وفي المساء سأوقد الشموع. سأجمع أولادي الأربعة، وأحكي لهم قصة عمهم، تلك الأسطورة الإنسانية والثقافية، وسأقول لهم: يا أولاد.. كان عمكم رجلا شريفا، أحب الفلاحين ونذر حياته من أجلهم فبادلوه حبا لا يوصف، وأحب الطلاب والقصابين والعمال فحفظوا كلماته على صدورهم، وأحب الأطفال فكبروا على رجولته ونموذجه في الكرامة والأصالة.
وسأقول للأولاد: عمكم يا أولاد، اسمه شمران الياسري من سلالة العرب الأماجد، كان شرفه في موقفه، فلم يبع كلمته، ولم يساوم عليها ولم يمدح حاكما، ولم يتراخ أمام جبار، كان إنسانا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولذلك كان يجد أوجاع الفلاحين العرب تلخص عذابات وحرمانات الفلاحين في كل هذه الكرة الأرضية، فارتبط مع كل إنسان صاحب قضية في مشارق الأرض ومغاربها.
وسأقول لهم: يا مستقبلي، واستكمال ماضيّ، كان عمكم، شمران، صورة الحياة وجوهرها، وحاضر الصراع ومستقبله، وقوة الكلمة واقتدارها الفائق على الصبر والصمود. وعندما يسألني الأولاد “وأين يوجد عمنا، هذا، يا أبتاه؟”، سأرد عليهم: في جذور النخيل، في لقاء العشاق، في بندقية كل مقاتل فلسطيني في الفاكهاني عندما كان يقاوم جنود شارون، في مذابح صبرا وشاتيلا، في أرق أغنية كتبها إيلوار، وفي صوت ناظم حكمت عندما يحول الشقاء إلى أبرع رسامي العالم.
ولن أطفئ الشموع، سأبقى أراقبها وهي تتوقد، تخلق مساحة من ضوء ونور في هذا الظلام القبيح الذي يحيطنا جميعا، وعندما يتقدم الليل، سأواجه البحر وأطلق صوتي بكل ما فيَّ من حيل: يا شمران، ما أعظم الإنسان، يعيش حرا، ويموت واقفا، ويقول كلمته ضد هذا الليل الرهيب. يا شمران، انتفض يا شمران، وسر قدّام قبائل كل العرب، وقل كلمتك “بصراحة” في وجه كل من يقتل الإنسان ويشرد المثقفين، ويغتال الحرية، في أي مكان من هذه الأرض، فلا عذر، بعد اليوم، لصامت، ولا تبرير لكل من يتوانى عن الانضمام إلى معسكر الحرية والسلام.
يا شمران، تزول المحيطات، وتندك الجبال الراسيات، وتنطبق السماوات على الأرض، لكن صرخة النواب ومحمود درويش ضد العسف، تنتقل من بيت إلى بيت. وعندما يعلو صوتي، ويتجمع المارة تحت شرفتي، ويدخل الجيران والأصدقاء والمعارف والأعداء إلى بيتي الذي سأبقيه مضاء هذا المساء، سأقول لهم بهدوء: أيها الناس، إن الربيع يحيط بكم من كل جانب، والنشيد الرسالي العظيم يتعالى في كل أرجاء المعمورة، والزهور تطلع اليوم من كل بيت مظلوم، لأن شمران لم يمت، ولأنه يطلق صوته الآن بنشيد الفرح العظيم، معيدا ومؤكدا مسيرة البشرية باتجاه الحرية والشمس منذ اسبارتيكوس وحتى تعود البشرية إلى طفولتها وعذريتها. سأقول للجمع كله: صباح الخير أيها الماضي. صباح الخير أيها الحاضر. صباح الخير أيها المستقبل.