أردوغان يكتب نهايته بيده

النرجسية.. حب الذات.. وعظمة الأنا. ثلاث كلمات كفيلة بأن تكتب نهاية أي زعيم سياسي يقع أسيرا لها، وينتهي به المطاف مجرّد ذكرى بين طيات الماضي، وفي صفحات التاريخ دروس وعبر.
لكن يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يقرأ التاريخ ولم يعتبر من تجارب سابقيه، فجنون العظمة ألقى بهتلر إلى غياهب ماض أسود، وعنجهيّة نيقولاي تشاوشيسكو وضعته أمام محاكمة شعبية انتهت بإعدامه.
فأي نهاية سيكتبها التاريخ لرئيس استنزف كل إمكانيات بلاده لإشباع رغباته وآماله المعلقة بخيوط الوهم لاسترجاع أمجاد الماضي، من أجل تغطية مركّب النقص الذي بداخله ويلازمه.
إن المتمعّن في سياسات حزب العدالة والتنمية منذ اعتلائه سدة الحكم في تركيا إلى اليوم، يمكن أن يميّز بين مرحلتين. الأولى هي مرحلة التمكين وقد سعى خلالها أردوغان إلى بسط السيطرة على كامل دواليب السلطة بدعم من قيادات مؤسسة الحزب مثل الرئيس السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو.
أما المرحلة الثانية، فقد أطلق فيها أردوغان العنان لهوسه بالسلطة، متخلّصا من رفقاء الأمس وحصر جميع الصلاحيات بيد واحدة خدمة لنزعة ذاتية تسلطية لا تتردّد في تسخير كل مقدرات الدولة لإشباع رغبات نفس مريضة بعظمة الأنا. الأنا التي فوق الدولة وفوق القانون وفوق الجميع.
كانت البداية من داخل الحزب، فتفرّد برسم توجهات العدالة والتنمية وكانت النتيجة خسارة مدوّية في الانتخابات البلدية لحساب المعارضة، وتصدّع سقف الحزب الحاكم الذي فقد أعمدته بعد استقالة عدد كبير من قيادات الصف الأوّل.
يقول فرويد في مقالته “مقدمة في النرجسية” المنشورة عام 1914، إن الشخصية النرجسية تتميّز بالتعجرف وفرط الحساسية تجاه آراء الآخرين، فهي لا تستطيع تقبل آراء الآخرين بأي شكل، ويستحوذ عليها توهم كاذب في النجاح والسلطة والتألق، وتعتقد أن وظيفتها ضبط الأمور تحت سيطرتها، لأنها على حق والآخرين دائما على خطأ.
هذا التشخيص النفسي الدقيق لمرض النرجسية وجنون العظمة بات واضحا في حركات الرئيس التركي الذي يرى في نفسه الرجل المناسب في المكان والتوقيت المناسبين، ومن يقول غير ذلك فهو مخطئ ومجرم في حق وطنه ومكانه وراء القضبان، وهو ما يفسّر سياسات تضييق الخناق على حرية الإعلام وإسكات أي صوت معارض أو منتقد لتوجهات الزعيم الأوحد.
تركيا اليوم تدفع ثمن إخفاقات الرئيس التركي بتدخله في الأزمة السورية والملف الليبي والرهان على ورقة الإسلام السياسي بدعم جماعات مسلحة تربطها صلات وثيقة بتنظيمات إرهابية. بات يُنظر إلى أنقرة كمصدر تهديد فعلي للأمن والاستقرار في أي زيارة يقوم بها أردوغان إلى دولة في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا.
التفرّد بالحكم أنتج اقتصادا منهكا لم يعد يحتمل سداد نفقات حرب فوضوية في شمال سوريا، لا طائل منها سوى تكريس المزيد من عزلة أنقرة إقليميا ودوليا، وسخطا شعبيا جرّاء تشويه أردوغان لسمعة المؤسسة العسكرية بإرسال مرتزقة سوريين يحاربون في ليبيا باسم الجيش وباسم الدولة التركية.
المصاب بجنون العظمة يمكن أن يفسّر كل الوقائع التي تدور من حوله على أنها مؤامرة تقودها بلدان أو منظمات دولية للإيقاع به، وهو ما ينطبق على سياسات الرئيس التركي الخارجية التي ترتكز بالأساس على الابتزاز والمساومة.
فمعادلة “صفر أعداء” التي طالما تغنى بها النظام التركي سرعان ما انقلبت إلى صفر أصدقاء، وأفقدت أنقرة تحالفات استراتيجية مع دول عربية وازنة في المنطقة كالسعودية والإمارات ومصر.
وباتت إخفاقات نظام أردوغان الخارجية تلقي بظلال سوداء على الوضع في الداخل التركي، فسياسة الأيادي المرتعشة والتخبط الحكومي حيال مجابهة تفشي فايروس كورونا تؤكد مدى إفلاس النظام، ولم يعد مستبعدا أن ترسم هذه الجائحة طريق النهاية أمام أردوغان في ظل تصاعد أصوات معارضة لسياساته العقيمة في التصدي لهذا الوباء، وتغليبه المصلحة الاقتصادية على حساب صحة الأتراك.
محاولة الانقلاب الفاشلة كانت فرصة أمام النظام التركي لدراسة دوافع هذا التمرّد ومراجعة السياسات العامة من أجل التدارك، ولكن أردوغان سطّر طريق نهايته بيده بمضيّه في سياسة الهروب إلى الأمام وإمعانه في حملته القمعية مستغلّا الحادثة لتصفية خصومه في الجيش، ممّا عمّق أزمة الثقة بين المؤسسة الأمنية والعسكرية وغذّى مشاعر الخوف والقلق لدى الأتراك.
ففي الوقت الذي خُيّل لأردوغان أنه يمسك بيد من حديد زمام السلطة في تركيا، بدأ الوضع يخرج عن السيطرة وكان التمرّد من داخل الجيش أول المؤشرات.. وأول خطوة نحو الهاوية.
لقد أغفل الرئيس التركي في طريق البحث عن السلطة والمجد حقيقة أن من يريد كل شي يخسر كل شيء.