نظرية المؤامرة بين احتفاء الإنترنت ودحض الفلاسفة

المؤمنون بالتآمر ونظرياته يستغلون ذكاءهم لابتداع الأدلة والترويج لها عبر الشبكة العنكبوتية.
الجمعة 2020/04/10
نظريات المؤامرة تخلقها عقول عاجزة (لوحة للفنان محمد قنيبو)

“لا شيء يحدث صدفة، كل شيء دُبّر بليل”، كلام يطلقه القائلون بنظرية المؤامرة، التي تنتعش إثر كل حدث لافت، لاسيما إذا صار محطّ أنظار العالم. والغريب أن أول المؤمنين بها هم المتعلمون، يستغلون ذكاءهم لابتداع أدلة تبدو في ظاهرها مقنعة، ويتوسلون بالإنترنت لنشرها على أوسع نطاق.

منذ الأيام الأولى لكارثة يوهان الصينية، خرج علينا معتنقو نظرية المؤامرة ليمطرونا بوابل من الأخبار والتعاليق والفيديوهات والوثائق التي تؤكد زعمهم بأن الأمر دُبّر بليل، مرة من طرف الصين التي نشرت هذا الوباء لتدمّر اقتصاد الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وتستولي بمفردها على السوق العالمية، ومرة من قبل الأميركان، ووكالة الاستخبارات “سي آي إي” تحديدا، فهي التي أشرفت على صنع هذا الفايروس في رأيهم، ثم نشره في بعض المدن الصينية في نطاق حربها على منافسيها من القوى العظمى.

وذهبت طائفة أخرى إلى القول إنها خطة يشترك فيها كبار هذا العالم للتخلص من جانب من البشرية والاستئثار بثرواته، خصوصا تلك الشعوب التي تتكاثر دون إنتاج، وتبحث عن خلاصها في الهجرة.

وحتى عندما انتشر الفايروس بشكل لم يميّز غنيّا من فقير ولا مؤمنا من ملحد، ظل أصحاب تلك النظرية متمسكين بآرائهم، وطلعوا علينا بوثائق تزعم أن الفايروس صنع بمعهد باستور بباريس، بالتعاون مع الصينيين، وبعلم من دول الاتحاد الأوروبي، للسيطرة على سوق لقاحات الأوبئة الجديدة. وما زالوا يبتدعون “حقائق” لا تجد صداها إلا لدى من يصدّقون بألا شيء يجري في الظاهر كما يجري في الباطن، وبأن وراء كل ما يطرأ من أحداث قوى مجهولةً تدبّره وتديره في الخفاء، كالزعم بأن كورونا كذبة فما هي في اعتقادهم سوى غاز السارين بثه الأميركان في أوساط الصينيين.

المؤامرة والفلاسفة

شغلت مسألة المؤامرة والتشكيك العديد من المفكرين، بعضهم عدّها نوعًا من حشد أنصار لغاية مبيّتة، فيما اتخذها آخرون وسيلة معرفية لبلوغ اليقين، فديكارت مثلا، يطرح في كتابه “تأملات ميتافيزيقية” فرضية يضع فيها كل ما مضى موضع ريبة، متسائلا ما إذا كان في السماء بدل الرب الحق، مصدر الحقيقة، كائنٌ شرير استعمل كل ألاعيبه لتضليلنا. وهو قول يجعل من ديكارت أول منظّر للمؤامرة عبر التاريخ، فالمظنون فيه هنا هو الرّبّ، ولكن ديكارت يستعمل الشكّ أداة فكرية، فيشك في المعتقدات الأكثر رسوخا حتى يبلغ اليقين.

كذلك غاستون باشلار، فهو يرى في نظرية المؤامرة شرّا لا بدّ منه، لأن الطريق إلى المعرفة الموضوعية مفروشة بالآراء المسبقة وتهافت الاستدلالات والتفاسير المزيّفة. فأن تعرف معناه هو أن تتخطى تلك الحواجز الإبستيمولوجية التي يستسلم لها الفكر بشكل يكاد يكون آليّا. 

انتشار الانترنت أكسب حضورا لافتا للبدع التآمرية التي كانت فيما مضى تتنقل خلسة كالبضائع المهربة

فالمؤامرة في اعتقاده هي مثال جيّد لما يسمّيه “الحاجز تحت الوجودي” الذي يدفع صاحبه دائما إلى أن يعزو ما يلاحظه إلى سبب وحيد وخافٍ. فإذا كان الأفيون ينوّم، فبسبب طاقته التنويمية. كذلك المجتمع، إذا كانت له مشاكل، فمردّها إلى مجموعة مهيمنة تعمل في الظل.

أما فيلسوف العلوم كارل بوبر فقد أكّد في حديثه عن نظرية المؤامرة أنه يكفي أن يفسّر أحدهم ظاهرة اجتماعية كي نكتشف من لهم مصلحة في إنتاجها. فهي في شكلها الحديث عبارة عن علمانية المعتقدات الدينية. وفي رأيه أن آلهة الإغريق، التي يفسّر بها هوميروس حرب طروادة، تمّ تعويضها بالمحتكرين والرأسماليين والإمبرياليّين. ففي مرحلة تعاظم فيها دور العلم، اتخذت المؤامرة وجهَ تطيّرِنا الجديدَ. غير أن نيتشه يعتقد أن النظرية ليست سوى تعبير عن تأويل للعالم، فلا وجود لحقيقة بالمعنى التقليدي للكلمة بل ثمّة تزاحمُ وجهاتِ نظرٍ متنافسة، تعكس كلٌّ منها قناعاتِ مَن يدافع عنها وحاجاتِه وقيمَه. فأن تفسّر معناه أنك تمارس نوعًا من “إرادة القوة” على الواقع.

أفكار خاطئة

هل يمارس القائلون بنظرية المؤامرة هذا التنوع احتجاجا على الصيغ الرسمية؟ ربّما، ولكن هذا النوع من الاحتجاج كان حكرًا على فئة محدودة من الراديكاليين، ثم انتشر مع انتشار الإنترنت عبر العالم، فقد عرفت أساطير التآمر المعاصرة كيف تطوّر الإمكانات التي تقدمها تكنولوجيات الاتصال الحديثة لتضاعف من انتشارها، مستغلة انخرام سوق المعلومات.

وزاد على ذلك أن زمن التخمر الذي تمنحه الإنترنت لتلك الميثولوجيات التآمرية محدود، ما يجعل عدد المواضيع التي تشملها نظريات المؤامرة يتكاثر وينمّي بصفة آلية كميّةَ المعتقدات التي تشغل الفضاء الاجتماعي.

لقد بيّنّا في مقالة سابقة أن العالم يعيش اليوم أزمةَ حقيقةٍ بسبب الإنترنت، فهو لم يضاعف من كمية الأخبار الزائفة فقط، كتلك الفيديوهات التي تُظهر كذبًا وزورًا قادة من الغرب يستمعون للقرآن أو يدخلون في الإسلام أو يثنون على طبيب عربي اكتشف ترياقا لعلاج كورونا، بل أكسب حضورا لافتا للبدع التآمرية التي كانت فيما مضى تتنقّل خلسة كالبضائع المهرّبة، وخرجت اليوم للعلن تنافس المعطيات الرسمية، وتطعن في الحقائق العلمية، وتعرض نفسها مجّانًا على كل مبحر في الشبكة، حتى من لا يرغب في الاطّلاع عليها، لأن أصحابها يسعون جاهدين إلى كسب أنصار يؤيدونهم، إما احتجاجا على قرارات حكومية، أو رغبة في خلخلة بعض القناعات، أو سعيا إلى إحداث الفوضى شأن الأنارشيست الذين لا يعترفون بسلطة، أيّ سلطة مهما كان انتماؤها.

وهو ما يؤكده عالم الاجتماع جيرالد برونر، الذي لاحظ تفشي أفكار خاطئة هيمنت على الأذهان، وانتشرت في شتى الأوساط كحقيقة لا تقبل الجدل، لأنها ما عادت تجد من يتصدّى لها، أو أن من يتصدّى لها لا يملك نفس حضور المنتشرين في المواقع الاجتماعية يرجّعون أصداء بعضهم بعضا. رغم أن نظرية المؤامرة تقوم على ثنائية مانوية، وعلى ما يسمّيه المتخصصون “انحراف قدرة الإنسان على الفعل في العالم”، ما يجعل القائلين بها يستعيضون عن عجزهم عن تغيير العالم باختلاق إشاعات، وابتكار حجج تدعمها حتى يسهل إقناع هواة جدد.

والغريب أن تلك المزاعم لا تنطلي على العامة وحدهم، بل تنطلي أيضا على المتعلّمين، بل إن هذه الفئة هي أكثر الناس اقتناعا بنظريات المؤامرة، لأنها تستعمل العقل لتأكيد موقعها داخل المجموعة، وكلما كان الفرد ذكيّا، كان أقدرَ على إقامة الحُجّة لصالحه، أي أن العقلانية والمعرفة عند تلك الفئة تستعملان لتدعيم أفكار تسلّم بصحّتها، وتحرص على نشرها على أوسع نطاق.

14