تونس والرأسمالية الوطنية

منذ بداية أزمة كورونا والفاعل الرسمي في تونس يؤسس خطابه على مجموعة من الأفكار والعبارات لعل أهمها عبارة “الرأسمالية الوطنية” التي تمر بين ثنايا الخطابات الرسمية لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، دون توقف مستحق عن دلالاتها ومعانيها والمطلوب منها في هذه الفترة العصيبة التي تعرفها البلاد.
صحيح أن العبارة وُلدت ضمن التراث الماركسي وخلال الجدل العاصف بين أجنحة التيار الماركسي حول الوظيفة الممكنة للبرجوازية الوطنية في مسائل التحرر والاستقلال، وصحيح أيضا أن العبارة وجدت لها تأصيلا نظريا وإجرائيا خلال الحقبة الناصرية في مصر حيث الاستعانة بهذه الطبقة في مقاربات التأميم ومشاريع اشتراكية الدولة، ولكن الصحيح أيضا أن عبارة الرأسمالية الوطنية كانت قليلة الظهور في الخطاب الرسمي التونسيّ، لاعتبارات كثيرة يطول شرحها، وأن عودتها حاليا بهذا التكثيف تفرض استقراء وتحليلا عميقين.
الواضح في عبارة الرأسمالية الوطنية أن الوصف أهم من الموصوف، ذلك أن الاستحقاق المركزي اليوم كامن في وطنية هذه الطبقة، أي في وقوفها مع خيارات الدولة التونسية ومعاضدة جهودها في محاربة الكورونا، وتحمّل جزء معتبر من أعباء الحرب الصحية.
وتلازمية الوصف في هذه العبارة، بين الوطنية والرأسمالية، فيها تمييز عن بعض رؤوس الأموال من المهربين والتجار الذين لا يستنكفون عن امتصاص دم الشعب سواء عبر الاحتكار أو التلاعب في الأسعار، وما جانب الفاعل الرسمي الصواب عندما سماهم بمجرمي الحرب وأثرياء النزاعات.
تكثفت عبارة الرأسمالية الوطنية في الخطاب الرسمي، عقب التذمر الذي أبداه رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة سمير ماجول حيال السياسة المعتمدة من قبل الحكومات المتعاقبة والمتجسدة فقط في رفع الضريبة والأداءات على المؤسسات الاقتصادية التي تحترم القانون، فيما تغض الطرف عن القطط السمينة الضاربة عرض الحائط بمؤسسات الدولة والتي تتمعش على انهيار الاقتصاد ودمار البلاد.
أدوار الرأسمالية الوطنية لا تقتصر في الدعم المادي المباشر، فذات الرأسمالية الوطنية لعبت أدوارا أساسية ومركزية في الحياة الثقافية والإعلامية والفنية والرياضية في تونس
وهو تذمر في محله وإن كان في غير وقته، فالحكومات التي تتلعثم في خوض الحرب ضد الفساد والتهريب وتتردد في ضرب معاقل الإرهاب الاقتصادي والاستثماري في البلاد، تستحق التنديد وحتى التغيير، غير أن السياق الراهن عنوانه الأبرز الحرب ضد الوباء، وفي الحرب لا صوت يعلو فوق صوت المواجهة والمعاضدة.
وفي الأثناء، أخطأت حكومة إلياس الفخفاخ في تعاملها مع الرأسمالية الوطنية، فمرة تُرفع ضدها عصا الزيادة في الأداءات على الأرباح، وثانية يُلوح ضدها باسترداد جديد لسردية المصالحة الاقتصادية، وثالثة بتبخيس مساعداتها ومقارنتها ببعض المساعدات الأجنبية، ورابعة بخطاب وعيد بإمكانية الدخول في خيارات مؤلمة.
هذا الخطاب الترهيبي لا يستقيم مع خطاب الشراكة في الحرب، ناهيك أنه يأتي عقب سنوات عجاف لم تجد الحكومات المتعاقبة سوى رواتب الموظفين العموميين وأرباح الشركات القانونية، سندا للتخفيف من ورطة قلة المداخيل وندرتها.
لسنا في وارد تعميم الفضل على كافة رؤوس الأموال، ولا إطلاق المسوءات على جميع الحكومات، ولكن للحرب منطقها، ويبدو أن تكثيف عبارة الرأسمالية الوطنية يأتي ضمن سياق استرداد الوعي بأن الشراكة في الحرب تعني الشراكة في تقاسم الأعباء والتضحيات، لا في تنويع جبهات الحرب.
ولكن يبدو أن هذا التكثيف الوارد حاليا على ألسنة العديد من الوزراء ومن بينهم وزير الشؤون المحلية لطفي زيتون، يُشير إلى أن الأزمة الصحية متواصلة وأن أعباءها الاقتصادية والمالية قد تكون أشد وطأة من توقعات مستشاري حكومة الفخفاخ.
ذلك أن تفعيل الحجر الصحي على غالبية أفراد المجتمع، دون تكريس واسع لمبدأ الكرامة الإنسانية والاجتماعية، ودون تقديم الحد الأدنى لسد رمق الجوع ورد وباء الفقر، لن يُفضي إلا لخروج المعيلين بحثا عن لقمة الرزق، وإن كان بفاتورة قانونية باهظة وتكلفة صحية أشد وطأة.
الواضح في عبارة الرأسمالية الوطنية أن الوصف أهم من الموصوف، ذلك أن الاستحقاق المركزي اليوم كامن في وطنية هذه الطبقة، أي في وقوفها مع خيارات الدولة التونسية
المُفارقة أن غالبية المشهد التونسي يقبع بين المطرقة والسندان، فالحكومة بين الواجب الصحي والاستحقاق الاقتصادي، والشعب بين ضرر كورونا وضرورات الحياة القاسية، والطبقة الرأسمالية بين التخفيف من إيقاع العمل والانخراط الكامل في تحمل تكلفة الحرب الصحية.
وفي صلب هذه المعادلات المستعصية، تتجلى قيمة المبادئ الأساسيّة للدولة الراعية على غرار الاقتصاد التضامني، والعدالة الجبائية والرأسماليّة الوطنية، وتأميم القطاعات الإستراتيجية على غرار الصحة والتعليم، والتضامن المجتمعي الذي لا بد أن يتجلّى في أحسن صوره.
المطلوب من الرأسمالية الوطنية اليوم أن تبقى رأسماليّة في طبيعتها الاقتصاديّة، وأن تكون وطنيّة في خياراتها الكبرى، والمطلوب من الدولة أن تساعد على بقاء المؤسسات الاقتصادية فباستمرارها محافظة على موارد الرزق لمئات الآلاف من المواطنين، وألا تُحوّل الوطنية إلى قميص عثمان، ترفعه عند الأزمات الشدائد وتخفضه عند الرخاء، أو إلى عصا رمزية ومادية غليظة تُلوح بها الدولة ضد رجال الأعمال.
والحقيقة، أن أدوار الرأسمالية الوطنية لا تقتصر في الدعم المادي المباشر، فذات الرأسمالية الوطنية لعبت أدوارا أساسية ومركزية في الحياة الثقافية والإعلامية والفنية والرياضية في تونس وغيرها، ولا يُمكن لأي قارئ لتاريخ الحركة الثقافية والإعلامية والرياضية التونسية عزلها عن الرأسمالية الوطنية في تونس.
من الواجب إعادة الاعتبار لأدوار الرأسمالية الوطنية في تونس، ومن الأوجب أيضا أن تبحث الدولة التونسية عن خيارات اقتصادية وبدائل تنموية حقيقية، جزء منها متصل بالبدائل التنموية والاستثمارية، والآخر مرتبط بجيوب المهربين والمحتكرين، أما الرأسمالية الوطنية فتعرف جيدا توطين المال وأن كل المال والمآل للوطن.