تطبيقات إلكترونية تستحوذ على مرضى العيادات النفسية

البحث عن علاج سريع عبر محركات البحث من قبل بعض المرضى، قاد الكثيرين إلى عيادات نفسية افتراضية يجد فيها المعالج النفسي فضاء لممارسة مهنته دون ضوابط قانونية أو تبعات مادية، ويحظى المريض بخصوصية تمنحه راحة نفسية منشودة، لكن الخبراء يرون أن هذا النوع من الأمراض لفرط حساسيته يحتاج إلى مراجعة وتقنين بالغين.
انتشرت في الآونة الأخيرة العشرات من المواقع الناطقة باللغة العربية، تقدم علاجات نفسية عبر الإنترنت. وتوفر تلك التطبيقات التي تقدمها خدمات طبية وعلاجية متعددة. ورغم غرابة أو مثالية الفكرة والتنفيذ، إلا أنها لاقت إقبالا كبيرا في الكثير من الدول العربية.
وتطرح الشراكة بين التكنولوجيا والعلاج النفسي أسئلة عديدة. أهمها لماذا لاقت تلك الخاصية قبولا وذاع صيتها خلال العقد الأخير في العالم؟
والغريب أن أحدث الدراسات التي ركزت على عملية تقديم خدمة طبية عبر الإنترنت، أفضت إلى نتائج غير متوقعة، مفادها أن العلاج السلوكي عبر التطبيقات قد يكون أكثر فاعلية من نظيره في العيادات والمستشفيات.
ونُشرت دراسة ألمانية في دورية “ذو لانست” الطبية، مؤخرا، حول هذه المسألة، وفتحت الباب لجدل واسع بعد أن أكدت نجاح التواصل التكنولوجي في تحسين الحالة النفسية والمزاجية لمرضى الاكتئاب عبر جلسات علاج نفسي “أونلاين”.
وفندت الدراسة أسباب ذلك النجاح وأرجعته إلى الحرية التي يتمتع بها المريض في الحديث عمّا يدور في صدره بشكل أكبر من تلك التي يملكها، إذا ما واجه الطبيب وجها لوجه.
وقسمت الدراسة المشاركين إلى قسمين. الأول يتلقى العلاج عبر الإنترنت، فيما يتلقى القسم الآخر علاجه بالطريقة التقليدية، أي وضع المريض على قوائم الانتظار لرؤية الطبيب.
وخضع المشاركون لعشر جلسات علاجية، مدة كل واحدة 55 دقيقة، على مدى أربعة أشهر. وبينت النتائج أن 38 في المئة من أصل 113 شخصا خضعوا للعلاج عبر الإنترنت قد تم شفاؤهم تماما من الاكتئاب، مقابل 24 في المئة فقط ممن تلقوا علاجهم بشكل طبيعي.
وبرز فريق آخر رافض لتلك النوعية العلاجية، باعتبارها تُفرغ العمل النفسي من مضمونه القائم على التوافق الإنساني وكذلك المواجدة (مدى دقة الشخص في استنتاج أفكار شخص آخر ومشاعره)، والعلاقة العلاجية القائمة على التفاعل الواقعي.
مراسلات نفسية
تتعدد طرق وآليات التواصل بين الطبيب أو المعالج النفسي، وبين الزبون. وتتنافس العشرات من المواقع في تقديم طرق علاجية مبتكرة. فتتشارك الأغلبية منها في تقديم خدمة التواصل نصيا أو صوتيا أو من خلال خاصية الفيديو مع المعالج النفسي. ويتيح التطبيق خدمة الاختيار إذا كان المريض يرغب في السماح للمعالج برؤيته أو يرغب في رؤية الطبيب دون أن يراه.
وتقدم تطبيقات أخرى خدمات أوسع، مثل موقع “7 كب”، الذي يتيح نوعين من الخدمة النفسية على الإنترنت. الأولى هي التحدث مع أشخاص يجهل بعضهم البعض وتجمعهم نفس المشاكل النفسية والصدمات. وتلك الخدمة تقدم بشكل مجاني، وتشبه فكرة مجموعات الدعم التي تجلس فيها مجموعة من الأشخاص في شكل دائري تجمعهم مشكلة مشتركة لتبادل الخبرات حولها.
أمّا الخدمة الثانية فهي بمقابل مالي، إذا أردت التحدث مع أحد الأطباء المتخصصين، والذي يقدم النصائح بشكل مباشر.
ويقول أمجد محمود، شاب في الثلاثينات من عمره، استخدم موقع “7 كب” عدة مرات، إن الموقع نقطة تحول في حياته، وعرفه عن طريق صديق بعد أن بدت عليه علامات اكتئاب وعزلة، واتجه إلى خاصية التحدث مع مجهولين يعانون من الاكتئاب مثله، واختار اسما مزيفا ليتحدث فيه مع رواد الموقع.
ويضيف أمجد لـ”العرب”، “تحسنت حالتي كثيرا بعدما شعرت أنني لست وحيدا، فأنا لم أكن في حاجة إلى أدوية نفسية أكثر من الاستماع لأشخاص يشعرون بما أشعر، لديهم قدرة على الاستماع دون تمييز وبصدر رحب”.
ويعتقد أن تجربة التشارك على الموقع أفضل كثيرا من الذهاب إلى طبيب، موضحا “لأننا لا نشعر بالخجل، ولا نواجه نظرات البعض الذين يرون الذهاب إلى معالج نفسي معناه إصابتك بالهوس أو الجنون، لذلك تكون المواقع أكثر ملاءمة للمريض النفسي، حيث أحضر معالجه النفسي إلى غرفته بضغطة زر”.
وتتيح غالبية المواقع فرصة اختيار المعالج ورؤية سيرته الذاتية وتقييمات المرضى الآخرين له، كما يقدم ميزة التعامل بأكثر من لغة والتواصل مع ثقافات مختلفة مثل موقعي “علاج نفسي”، و”بزراميط” وهي كلمة بالعامية المصرية وتعني “لا شيء”، واللذين يقدمان خدمات اختيار الطبيب بحسب الجنسية والمنطقة السكنية ليكون أكثر تقاربا وفهما لطبيعة المشكلات الاجتماعية وأحيانا الدينية.
وتعمل بعض المواقع على تقييم الزبون فور دخوله على الموقع عبر ظهور تلقائي لمجموعة من الأسئلة، يستعملها النظام الإلكتروني لمعرفة الحالة وتحديد نوعية العلاج المطلوب، ثم يوصي بمجموعة من المعالجين وغرف دردشة وأنواع العلاج المختلفة، مثل القلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو الرهاب المرضي، وكل ما على المريض فعله الضغط على الخدمة الأنسب له.
وتظهر الكثير من الانتقادات لذلك النظام بعد أن لعب الذكاء الاصطناعي دورا أساسيا في تشخيص الزبون. ويعتقد الأطباء أن مشكلة تلك المنظومة تكمن في إغفالها الجانب الإنساني والاجتماعي للمريض على حساب أنظمة رقمية وبحثية فقط.
ويقول استشاري الأمراض النفسية، أيمن أبوخاطر، إن عيوب البرامج الإلكترونية أكثر من مميزاتها، وأهم مسألة في العلاج النفسي أن يكون مستندا على تشخيص دقيق وجها لوجه، وإلا سيكون المريض معرّضا لتشخيص خاطئ، وبالتالي يحصل على علاج خاطئ، والميزة الوحيدة للعلاج عبر الإنترنت تكمن في سهولة الوصول، ولذلك أصبحت أكثر فاعلية وانتشارا.
العلاج السلوكي عبر التطبيقات قد يكون أكثر فاعلية من نظيره في العيادات والمستشفيات
وتتمحور المميزات الأبرز للعلاج النفسي الإلكتروني عموما حول سهولة استخدامه وتيسير مهمة الذهاب إلى معالج نفسي دون خجل اجتماعي أو رهبة أو وصمة عار، ويشجع البعض على اللجوء إلى العلاج السلوكي لحاجة مرضية وإثارة الفضول ورفع الوعي نحو العلاج النفسي.
وتزداد العيوب أيضا مع انتشار تلك الخاصية العلاجية في إغفالها للعامل الإنساني بشكل واضح، فعلم النفس يعتمد على دراسة العقل والسلوك، أما العلاج النفسي فيقترن بإصلاح الاعوجاج السلوكي والنفسي عبر الاندماج العاطفي والروحي. وفي البرامج العلاجية “أونلاين” لا يمكن تحقيق تلك الصيغة مهما بلغت القدرات التكنولوجية من تطور وجودة.
هذا علاوة على الأمور التي تظهر في اللقاء المباشر وتختفي عند اللّقاء الافتراضي، كالتفرّغ الكامل للحالة والتركيز عليها من دون التشويش بأمور مختلفة، لأن الطبيب لا يمكن أن يتحكم في البيئة المحيطة للمريض عبر استخدام الإنترنت، ويصبح العلاج النفسي القائم على المكان والزمان المناسبين كجزء من منظومة علاجية غير متاح.
ويعتقد أبوخاطر أن الجلوس وجها لوجه للتواصل والنقاش يصنع الفارق، ويحقق العلاج الفعال سواء كان بتدريبات سلوكية أو جلسات مشورة عميقة، وتحسن المرضى الذين يتلقون علاجا عبر الإنترنت سريع الانتكاسة، لأنه لم يُبن على أساس علمي سليم.
وفتحت المواقع والتطبيقات النفسية بابا أيضا لانتهاك الخصوصية، فدقت أجراس إنذار مؤخرا، تحذر من التعامل مع تلك المواقع والثقة فيها، لأنها تنقل معلومات وتسجل بالصوت تفاصيل شديدة الخصوصية ويمكن استخدامها لابتزاز صاحبها.
وتكمن الأزمة الرئيسية في صعوبة مراقبة أو منع تلك المواقع من تسجيل أو استغلال معلومات المرضى، على عكس المشاركة مع طبيب في مكان علاجي تمكن محاسبته قانونيا في حالة إفشاء أسرار مرضاه.
وبدت في الأشهر الأخيرة أزمة تتعلق بدخول خدمات جديدة تقدم برامج تنمية بشرية، سواء للدعم النفسي أو الدراسة عبر الإنترنت، وفتحت تلك الخطوة المربحة والجذابة للمواقع الباب أمام دخول غير المتخصصين في المجال العلمي المعقد.
وتُتهم التنمية البشرية باستمرار بكونها مجالا لدخول محتالين يستغلون حاجة الأفراد للدعم النفسي بتقديم مشورات علاجية دون دراسة مسبقة.
ويعتقد خبراء في علم النفس أن اقتحام رواد التنمية الذاتية مواقع العلاج النفسي عبر الإنترنت يزيد من فوضى العلاج النفسي، وقد يأتي بنتائج عكسية على صحة المريض النفسية، لأن الأمر لا يخضع للرقابة، وبعيدا تماما عن أوجه القانون أو المواثيق الأخلاقية.
أدوات مساعدة
لم تتوان التكنولوجيا في تسهيل عمليات التواصل بين الطبيب والمريض فقط، وسهلت من مهمة العلاج نفسه بتوفير أدوات علاجية بصورة إلكترونية.
وتعتمد العلاجات السلوكية تحديدا على المراقبة الزمنية والمتابعة ومشاركة المريض في العملية العلاجية عن طريق التدوين والملاحظة، مثل تقنية العلاج المعرفي السلوكي.
ويحتاج مريض القلق أو الغضب مثلا إلى تدوين يومي للمواقف التي تثير لديه القلق والغضب بتحديد الوقت والمكان وتفاصيل ما حدث، وتتسبب تلك العملية المؤرقة في تساقط الكثير من التفاصيل العلاجية المهمة.
وطرحت التطبيقات الذكية خدمات جديدة تقوم بمساعدة المريض على تدوين مواقفه اليومية عبر الكتابة أو التسجيل الصوتي، وتنظيم اليوم بالتوقيتات، ووفرت المواقع إحصاءات أسبوعية تقدم تفصيلا لعدد المرات المثيرة للقلق أو غير ذلك من الأمراض والاضطرابات المستهدفة، فضلا عن معدل الوقت الذي تزداد فيه نسبة القلق واقتراحات بكيفية التعامل معها.
وتوفر مواقع شهيرة مثل “شازلونغ”، وهو أكبر موقع عربي للعلاج النفسي، خاصية إيصال إحصاءات التطبيقات للأطباء المختصين للمزيد من مساعدة المعالج على تشخيص وتعديل الخطة العلاجية، لذلك أصبحت الأدوات الإلكترونية ثورة حقيقية في مسألة مراقبة ومتابعة المريض عن كثب.
ويعتقد أطباء أنها رفعت من مستوى كفاءة العلاج السلوكي، بعد أن سجلت الوتيرة اليومية للمرضى ممن يعانون من أمراض نفسية مستعصية، مثل مرضى الفصام أو الألزهايمر الذين يجدون صعوبة في التركيز على المواقف التي تقابلهم يوميا.
ولم تتوقف مسألة تلاحم التكنولوجيا مع العلاج السلوكي عند حد تيسير أدوات العلاج، لكنها أيضا طورت من الأداة التشخيصية ذاتها، عبر تحويل الاستبيانات التشخيصية إلى لعبة تشبه ألعاب الفيديو، تمنح العلاج النفسي والتنمية الذاتية أبعادا أكثر مرحا ليخرج هذا التطبيق عن المألوف في ما يخص تطبيقات العلاج النفسي، الأمر الذي سعت إليه مجموعة من الباحثين النفسيين في جامعة ستانفورد، وجامعة كاليفورنيا، وجامعة بيركلي، متعاونين في تطوير تطبيق يدعى “لايف إز غايم” أو “الحياة لعبة”.
ويمنح التطبيق اقتراحات للتخلص من الضرر النفسي الذي تعاني منه في شكل نشاطات مسلّية، مثل التمايل على الأغنية المُفضلة، والإجابة على أسئلة عامة أو بناء بيوت من ألوان وأشكال هندسية معينة.
وأدت تلك التطبيقات إلى تطور لافت للأطفال الذين يصعب تشخيص أمراضهم أو التعامل معهم بصورة علمية مباشرة، وستأخذ تلك الوسائل منحنى أكبر لتناسب البالغين وكبار السن.
وتكمن المخاوف الأساسية الآن مع وتيرة التطور السريعة في لعب الإنسان الآلي أو الذكاء الاصطناعي دورا أكبر في تقديم علاج نفسي. وقد تصبح مشاهد الخيال العلمي في الأفلام، حقيقة، وتمكن رؤية إنسان يجلس أمام آخر آلي ليأخذ منه المشورة والنصح.
ورغم عبثية المشهد في السابق، إلا أن التكنولوجيا التي وفرت أدوات علاجية غير مسبوقة يمكنها أن تخلق المزيد من التقارب مع المجال النفسي ليقلل من أدوار المعالج. وتتبلور الصورة الآن لفرض حوكمة على تلك التطورات في إمكانية استغلال مميزات العلاج النفسي عبر الإنترنت مع تحجيم عيوبه، من نوعية غياب الرقابة وضعف التواصل البشري، في حال صناعة تناغم بين العلاجين الواقعي والافتراضي.
ويمكن حدوث ذلك عبر تقنين الأدوات العلاجية الرقمية لتكون جزءا من أدوات المعالج النفسي تستخدم طبقا لظروف معينة، ولا تكون متاحة بسهولة في يد العامة. ويضاف اقتراح آخر يتعلق بدخول العلاج على الإنترنت حيز الأطر القانونية بوضع العاملين فيه والمستخدمين له تحت رقابة حكومية أو نقابية تحمي من الأضرار وتزيد من الفاعلية. فالتكنولوجيا أثبتت أن مقاومتها مستحيلة، ويكمن الحل دائما في التشابك معها والعمل تحت مظلة منظومة التطور.