المدارس السودانية في مصر منارات علم لكل اللاجئين

الطلاب اللاجئون في مصر يشعرون بالأمان والطمأنينة داخل محراب العلم فهناك تتقارب ظروف كل منهم ما يجعل المدرسة السودانية بيئة مثالية للعيش والتعلم.
الجمعة 2020/02/28
نوبل لكل طالب علم

يواجه اللاجئون في أي بلد يحلون به أزمة اندماج، فالثقافة تختلف، واللغة تختلف أيضا وإن كانت لغة مشتركة فاللهجات تختلف كما في الوطن العربي، لذلك يظل الهاجس دائما هو التواصل، فالأطفال والشباب يتقاسمون هذا الهاجس مع الكبار، وخاصة فيما يتعلق بالتعليم. واللاجئون العرب والأفارقة في مصر اختاروا المدارس السودانية الخاصة لمواصلة تعليمهم لأنها توفر لهم مناهج تعليمية ذات قيمة، إضافة إلى أجواء التسامح الثقافي والديني فيجتمع الطلبة بعيدا عن الاحتقان والتنمر والعنصرية.

القاهرة- داخل برج سكني يتكوّن من خمسة أدوار ويحتوي على 20 قاعة دراسية، يتقابل أبناء اللاجئين في مصر من جنسيات مختلفة، لتلقّي تعليمهم على يد معلمين سودانيين وسوريين وإريتريين، حيث يدرسون المناهج السودانية، بعدما أبعدتهم الغربة عن الالتحاق بالمدارس في أوطانهم.

يبدو البرج الواقع في حي فيصل الشعبي بمحافظة الجيزة المتاخمة للقاهرة، وكأن قاطنيه من الأسر العادية حيث يخيم عليه الهدوء، لكن بالاقتراب منه تشعر وكأنك أمام مفوضية للاجئين، حيث يقف عشرات الشباب والفتيات من أصحاب البشرة السمراء يرتدون الزي المدرسي ويتبادلون الضحكات والأحاديث الجانبية حول الامتحانات، وماذا يفعلون في الإجازة المدرسية.

ثمة اختلافات يمكن اكتشافها بمجرد الدخول إلى المكان، في اللهجة ولون البشرة والسلوكيات، هذا يتحدث العربية بطلاقة، والآخر يكاد يُفهم كلامه بصعوبة، وثالث يشير حديثه إلى أنه من بلد أفريقي لا يتقن العربية تماما، ورابع توحي ملامح وجهه بأنه مصري، وبالحديث معه يتضح أنه سوري الجنسية هاجر من بلاده برفقة أسرته بسبب الحرب.

تمثل المدارس السودانية في مصر حواضن تعليمية لأبناء عدد كبير من الجنسيات من الأسر اللاجئة التي استوطنت في مصر، فهناك الصومالي والإريتري والتشادي والإثيوبي والليبي واليمني والفلسطيني والسوري فضلا عن السوداني، ويختفي الحديث عن الجنسية داخل قاعات الدرس.

قضت “العرب” يوما داخل مدرسة “نوبل”، للبحث وراء الأسباب التي جعلتها وغيرها في مصر، مقصدا للطلاب اللاجئين، ومبررات عزوفهم عن الالتحاق بالمدارس المصرية، رغم التسهيلات الحكومية التي يتم تقديمها بمعاملة أبناء النازحين نفس معاملة المواطنين.

لا يحتاج الأمر إلى وقت طويل لاكتشاف البساطة داخل المدرسة السودانية، فهي عبارة عن غرف صغيرة تحتضن كل منها نحو 20 طالبا وطالبة، ولا تتوافر فيها سبل الترفيه وأماكن الأنشطة وساحة الألعاب، هي مكان يهدف فقط إلى تدريس المناهج والامتحانات ومنح شهادات التخرج.

لماذا السودانية

المعرفة تجمعنا
المعرفة تجمعنا

تبدو المدرسة السودانية من الخارج كأنها مركز للدروس الخصوصية، لكنها في الحقيقة تُجرّم هذا الفعل، بعكس نظيرتها المصرية التي تتعامل مع الدرس الخصوصي باعتباره الوسيلة الأهم والأسهل للنجاح.

يقول محمد عبدالخالق، صاحب المدرسة ومديرها، إن حظر الدروس الخصوصية يأتي على رأس الأسباب التي تغري أبناء اللاجئين لإلحاق أبنائهم بها، فلا ترهق الأسرة نفسها عناء التعاقد مع معلم خصوصي وتدفع له آلاف الجنيهات، وهي في أمس الحاجة إلى توفير الأموال لمواجهة صعوبات الحياة في الغربة.

هناك قاعدة عامة في مدرسة نوبل هي أن المعلم الذي يُكتشف أنه يعطي دروسا خصوصية، يتم إنهاء التعاقد معه دون منحه فرصة الدفاع عن مبرراته أو حتى إنذاره، لأنه بذلك تجاوز أحد الخطوط الحمراء التي تضعها إدارات المدارس، ما ساهم في تحسين صورتها في نظر اللاجئين.

يضيف عبدالخالق لـ”العرب”، إن اللاجئ عموما يبحث عن مدرسة تقوم بكل المهام ولا تجعل تعليم ابنه أو تربيته عبئا عليه، فهو يريد التركيز على أشياء أخرى في غربته، مثل البحث عن وظيفة وتوفير متطلبات حياة أسرته، لذلك ينظر إلى المدارس السودانية على أنها بيئة مثالية للتعليم وتبادل الثقافات بين الجنسيات والتلاحم مع الآخرين والتعايش المشترك، وتكون بمثابة الطبيب النفسي لأولاده.

في عُرف المدرسة لا مجال لنجاح أيّ طالب طالما لم يجتز الحد الأدنى من أساسيات التعلم، حتى لو ظل في نفس السنة الدراسية عامين أو أكثر، بعكس نظيرتها المصرية التي يكون فيها نجاح الطفل حتى الصف الثالث الابتدائي بقوة القانون، حيث لا يجرؤ المعلم على رسوبه ولو كان لا يجيد القراءة والكتابة.

ربما يكون ذلك عاملا أساسيا يجعل الأسرة اللاجئة تفضل إلحاق أبنائها بمدرسة سودانية، لكن الاقتراب من طبيعة هذه النوعية من المؤسسات التعليمية، يزيح الستار عن أسباب أخرى كثيرة تجعلها مقصدا للمغتربين، ولكل جنسية مبرراتها في تفضيل المناهج السودانية.

المدارس السودانية تحتضن الصومالي والإريتري والتشادي والإثيوبي والليبي واليمني والفلسطيني والسوري

تفضل أسر يمنية أن يتعلم أبناؤها في مدرسة سودانية، بحكم أن أغلب المدارس اليمنية بدأت ونشأت على أيدي معلمين سودانيين، ما يجعلهم أقرب من حيث التقارب الفكري والثقافي والتاريخي على مستوى التدريس وفهم طبيعة وعقلية الطالب اليمني.

ويعتبر الصوماليون المعلم السوداني أقرب إليهم من حيث اللغة وفهم الطباع والعادات والتقاليد والثقافة، لأنه يتحدث العربية الفصحى ويمكن فهمه والتواصل معه بسهولة.

وتمثل هذه المدارس للإريتريين المنقذ الوحيد لأبنائهم للهرب من دوامة الجهل، بحكم أن المدارس المصرية لا تدرجهم ضمن اللاجئين الذين يحق لهم التعلم فيها.

هناك هدف هام يكاد كل اللاجئين يتفقون عليه، مفاده أن الشهادة السودانية أعلى من نظيرتها المصرية بفارق 10 في المئة في تصنيف الشهادات العربية، بمعنى أن الطالب المصري إذا كان مجموعه 80 في المئة في الثانوية العامة (البكالوريا)، وحصل طالب آخر على نفس النتيجة من مدرسة سودانية، فعندما يتقدم الطالبان للكلية تكون الأفضلية للقادم من المدرسة السودانية، لأنها سوف تعامله على أنه حصل على 90 في المئة، ما يفسر سفر الكثير من الطلبة المصريين إلى السودان للحصول على شهادة إتمام مرحلة التعليم الثانوي من الخرطوم أو غيرها.

وتصنف المدارس السودانية في مصر، إلى مدارس تابعة للسفارة وهي واحدة فقط تحمل اسم “الصداقة”، وأخرى تابعة للمجلس الأفريقي بالقاهرة، أما الأكثر انتشارا فهي الخاصة ويبلغ عددها قرابة الـ20 مدرسة.

مضايقات ومصالحة

مدرسة تقوم بكل المهام
مدرسة تقوم بكل المهام

ارتبط انتشار المدارس الخاصة بمضايقات تعرض لها سودانيون عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، واتهام الرئيس السوداني السابق عمر البشير في التخطيط للحادث. ومنذ ذلك الوقت، لم يتم تعديل الوضع، على الرغم من تجاوز هذه الأزمة، وتحسن العلاقات بين القاهرة والخرطوم.

وقتها ضيقت الحكومة المصرية الخناق على أبناء السودانيين الذين كانوا في مدارسها، وجعلت التعليم المجاني مقتصرا على الذين دخلوا البلاد قبل توتر العلاقة مع الخرطوم، وكان ذلك بداية التوسع في إنشاء مدارس سودانية خاصة في كل من القاهرة والجيزة والإسكندرية، وتحديدا في المناطق التي بها كثافة سودانية، فهناك تقديرات رسمية سابقة قالت إن عددهم في مصر وصل إلى نحو أربعة ملايين سوداني.

ربما تكون إحدى أهم مزايا المدارس السودانية أن مصروفاتها السنوية تتناسب مع مختلف الفئات، فهي لا تزيد عن ثلاثة آلاف جنيه مصري (190 دولارا) بالنسبة إلى المدرسة التي تدرّس مناهج عربية، وخمسة آلاف جنيه للغات، وهي أرقام لا تقارن بنظيرتها المصرية التي تبدأ من عشرة آلاف جنيه وتصل إلى أكثر من تسعة أضعاف هذا المبلغ.

بيئة مثالية

نواد متعددة الجنسيات تصالح بين الثقافات والأديان
نواد متعددة الجنسيات تصالح بين الثقافات والأديان

يشعر الطلاب اللاجئون داخل المدارس السودانية بالأمان والطمأنينة، فهناك تتقارب ظروف كل منهم، ولا مجال للتنمر أو السخرية أو حتى الشعور بالدونية وفرض الذات بشكل غير شرعي، إذ يشعر الجميع بأن المكان ملك لهم، وليسوا ضيوفا عليه، ما جعل المدرسة بيئة مثالية للعيش والتعلم.

وتقوم العلاقة بين الطلاب والمعلمين وإدارة المدرسة على الصداقة والأخوة وتبادل الابتسامات، فليس هناك حواجز نفسية أو تربص أو خوف من انفتاح. ويمكن رصد ذلك بسهولة في قاعات الدرس، فهناك وقت للضحك، وآخر للشرح، كي يوجد ما يُعرف بـ”متعة التعلم”.

قد تجد طالبة صومالية تجلس إلى جوار زميلها السوداني في قاعة تدريس للصف الثالث الثانوي، أيّ أنهما في مرحلة المراهقة، لكنها لا تخشى أن يخدش حياءها بكلمات أو تلميحات غير أخلاقية أو يضايقها بأي عبارة، فهو بالنسبة إليها الصديق والأخ الأكثر حرصا عليها، بحكم أنهما يعيشان نفس ظروف الغربة، ويجب عليه أن يحميها ويدافع عنها.

عندما سألت “العرب” الطالبة صوفيا حليم عن مدى تعرضها لمضايقات بحكم الاختلاط بين الشباب والفتيات داخل القاعات، أجابت بأن “المدرسة السودانية، هي المكان الأكثر أمانا بالنسبة إلى الفتاة اللاجئة، لأن الفئة التي تتعامل معها، سواء من المعلمين أو من الطلبة، تبحث دائما عن الحد الأدنى من الحياة البعيدة عن الاستهداف”.

وأضافت “هنا نتعلم كيف نواجه التطفل والمضايقات من بعض المارة، وخاصة أن بعض الطلبة يعانون في الشارع من العنف اللفظي والنظرات المريبة، وبالتالي لا يمكن لمن يشتكي هذه الظروف أن يقوم بالأفعال ذاتها مع أقرانه، وصحيح أن بيننا صداقات تفرضها عوامل الاختلاط بين الثقافات والجنسيات، لكن لها حدود، يضعها الشاب قبل الفتاة”.

ويصعب في هذه المدارس أن تسمع أصوات الشتائم بين المراهقين، فهناك قواعد صارمة تطبق على الجميع عنوانها “أنت حر خارج المدرسة، أما داخلها فأنت ملزم بعدم تجاوز القواعد التي تستهدف الإعلاء من قيم التعايش وعدم ارتكاب تصرفات تتنافى مع قيم العلم”.

تصنف المدارس السودانية في مصر، إلى مدارس تابعة للسفارة وهي واحدة فقط تحمل اسم "الصداقة"، وأخرى تابعة للمجلس الأفريقي بالقاهرة

أكثر ما يميز المدرسة السودانية أنها محراب علم ليس أكثر، فلا مجال للحديث في الأمور السياسية أو الدينية أو العرقية والطائفية، وإن حدثت واقعة من هذا النوع لا تتم معاقبة الطالب العنصري، بل يتم تقويم سلوكياته بشكل تربوي ونفسي وعلمي كي يقتنع بأنه على خطأ، ثم يعتذر دون ضغوط.

تذكرت إيمان عيسى، وهي معلمة فيزياء، واقعة تنمر طالب صومالي على زميله الإثيوبي بوصفه بـ”الحبشي”؛ قالت، إن كلمة حبشي عند بعض الإثيوبيين تعدّ إهانة لصاحبها، لأنها تحمل صبغة عرقية، لكن تم حل المشكلة بعقد ورشة تنمية بشرية حول تاريخ الحبشة، وكيف خدمت الإسلام والمسيحية معا، وخرج الطلاب من الجلسة أصدقاء.

تأسست قناعات أصحاب المدارس بحتمية مواجهة الترهيب الديني والعرقي، ويكون الشرط الأول عند اختيار المعلمين الابتعاد عن الدين، ويتم إلزامهم بتدريس أساسيات العقيدة والتعاليم الدينية وعدم الخروج عن النص. وهناك معلمون للتربية الإسلامية، وآخرون للمسيحية، والميزة أنه بعد الانتهاء من درس الدين يتم جمع الطلاب في قاعة واحدة لتعريفهم بمزايا الأديان المختلفة لإزالة الحواجز بينهم.

المفارقة أن المناهج التي يدرسها الطالب اللاجئ وضعها نظام البشير ولم تتغير تقريبا منذ نحو 22 عاما، وبعضها يحتوي على دروس تحض على العنصرية والطائفية والتمييز العرقي، لكن المدارس السودانية في مصر تلغي تدريس الأجزاء التي تتضمن تحريضا.

يحق لمدير المدرسة السودانية أن يلغي دروسا في المنهج، طالما كان ذلك بعيدا عن السنوات النهائية في كل مرحلة، بمعنى أن منهج الصف الثالث الإعدادي والثالث الثانوي العام، يتم وضع أسئلته من جانب وزارة التعليم السودانية باعتبارهما عامي شهادة، أما في باقي السنوات فيكون مضمون الامتحان حسب رؤية المدرسة، وبالتالي يحق لها إلغاء دروس معينة.

تظل الميزة الأهم بالنسبة إلى الكثير من أبناء الجاليات العربية والأفريقية في مصر، أن المناهج لا تكرس الهوية السودانية، بل تصلح لأي جنسية، فهي لا تمجد السودان كوطن. ورغم أن بعث هذه المدارس كان يهدف إلى أسلمة الطلبة، فإن المناهج عالجت ذلك في المدارس بالحذف وثقافة المصالحة.

20